جيمس ناش وقصيدته عدن

مسعود عمشوش
من بين الضباط البريطانيين الذين قادوا القتال ضد الثوار في بلادنا قرأنا كثيرا عن كولين ميتشل، الذي اشتهر بلقب باسم “ميتش المجنون”، وعُيِّن قائدا عاما لعدن بدءا من يونيو إلى نوفمبر 1967، وقائدًا لكتيبة (أرجيل ساذرلاند هايلاندرز)، التي كان قوامها تقريبا نحو 1000 جندي واستعادت كريتر من الثوار مساء الثالث من يوليو 1967. بالمقابل قليلون منّا سمعوا اسم الضابط البريطاني جيمس ناش، الذي عمل في محميات عدن الغربية (WAP) من عام 1959 إلى عام 1965، أولا كمسؤول سياسي في الحصن ومكيراس ثم مسؤولا عسكريا في الضالع. وربما هناك بين الذين عاشوا فترة الكفاح المسلح ضد بريطانيا في المحميات من سمع عنه.
ولد جيمس جاردينر ناش في 30 يوليو 1934 في سانت ماري كراي St Mary Cray التي تقع في مقاطعة كنت، جنوب شرق لندن. وفي بداية الحرب العالمية الثانية أخذه قاد والده إلى دونكيرك غرب فرنسا ثم إلى نيوزيلندا طوال فترة الحرب.
وبعد أن أكمل جيمس أربع سنوات في مدرسة ستو، غادرها، قبل عيد ميلاده السابع عشر، خوفا من الالتحاق بالجامعة، والتحق بالخدمة الوطنية. وبما أنه لم يكن يرغب في العمل في شركة العائلة فقد شرع سنة 1956 في القيام بمسيرة فردية لمدة عامين من البندقية إلى أديس أبابا في إثيوبيا. وفي سنة 1959 انضم إلى مكتب المستعمرات وعُيِّن ضابطا ومستشارا لدي سلاطين محميات عدن الغربية، في بيحان ودثينة ومكيراس والحصن والضالع.
وحينها كانت الظروف المعيشية في المحميات صعبة، لكن المناظر الطبيعية كانت رائعة، والناس طيبين، وقد استطاع جيمس بحكم عمله وانفتاحه على جميع الناس بمن فيهم الذين يقاتلونه، أن يتعرف على معظم مناطق محميات عدن الغربية وسكانها، حتى أنه كان يعرف معظم الثوار، وعندما تنتهي إحدى العمليات، كانوا يجلسون معا لتناول الطعام، ويناقشون المعارك التي كانوا يطلقون فيها النار على بعضهم البعض. وكان يرتدي الملابس التي يلبسونها، حتى خلال في زياراته النادرة إلى عدن لاسيما في المناسبات.
وعندما اندلعت ثورة 14 اكتوبر في جبال ردفان في عام 1963، تم تكليف ناش بمسؤولية الجوانب السياسية للرد العسكري. وبعد أن هدأت المعارك في عام 1964، تم تكليفه بمهمة لا يحسد عليها تتمثل في القيام بعمليات سرية لمكافحة الإرهاب ضد الثوار، وتحول منزله في الضالع إلى مستودع أسلحة لفرقته ورجاله القبليين، وهدف دائم ومفضل لهجمات الثوار الذين شوهوه بطلقات البازوكا.
وعندما حظرت حكومة حزب العمال البريطانية العمل العسكري الهجومي والعمليات ضد المقاتلين في الضالع وردفان شعر جيمس أن لا حاجة له في البلاد، وتمّ منحه وسام الإمبراطورية البريطانية الأكثر تميزا وأبعد من عدن في نهاية سنة عام 1965، ونقل إلى وزارة الخارجية، حيث ظل فيها عامين فقط، اختار بعدها أن يغير حياته كليا وأصبح مسّاحا مدنيا معتمدا، وعمل لدى بلدية مدينة لندن من عام 1969 إلى عام 1988، منها ثلاث سنوات في القاهرة.
وفي عام 1988، عندما بلغ من العمر 54 عاما، انطلق بحصان وعربة من اسطنبول إلى القدس لجمع الأموال لمستشفى فرسان سانت جون للعيون. وكرس معظم وقته للكتابة في قرية سومرست. وقد تضمنت كتاباته مجلدين رفيعين من الشعر. وتبيّن بعض القصائد والنصوص شغفه بأرض الجنوب العربي واعتزازه بالأيام التي قضاها فيها. وقد تزوج جيمس ناش مرتين: الأولى سنة 1965 من سالي راندال التي طلقها سنة 1984، والثانية من آن ألين سنة1991، وتوفي في 24 أغسطس 2020، عن عمر يناهز 86 عاما.
وفيما يأتي الترجمة التي قمنا بها لقصديته (عدن) التي نشرها سنة 1993، ويعبر فيها عن شغفه وحبّه لأرض الجنوب.
عدن
1
الشمس المتأخرة ترسم ثانيةً شكل التلال الملتوية،
في منتصف النهار، مبيض اللون وعميق التقاسيم.
وألسنة الضوء الحادة تجول الآن حول القبر
ذي القبة، نصف البيضاوية، المطهرة بالجير،
الساطعة وسط الحقول الخضراء الصغيرة.
المنتصبة ها هنا منذ ألفية أو ألفيتين احتفاءً بقديس أو حكيم قديم، أو ملك كاهن، في عصر لا يُنسى.
كانت ذات مرة تطل على تجارة البخور المزدهرة
في المدن الشاهقة على أطراف صحراء،
توقفت فيها قوافل المر لوزنها وترسيمها،
واستعادت الفوضى مكانتها القديمة،
ومسح البدو الجائعون الحجارة المتساقطة
آملين الكشف عن الذهب والآثار،
أو بعض العقيق الناعم المنحوت في خاتم.
واستمتعوا بنسيم المساء،
مثلي حينما كنت بين الأصدقاء الطيبين.
رجال هزيلون داكنو اللون
متشابكون مثل الينابيع المشدودة،
سريعو الحركة، عصبيون، ثرثارون كالطيور،
بضحكات وفقاعات تتدفق في الداخل
ولا تشبه أبدا سخافاتنا.
يا ترى، ألم يحب ضوء المساء الذي يملأ الكون
باللون الأحمر والأزرق والزعفراني تلك التلال الصارخة؟
2
سبتمبر، مثقل بالحرارة،
يحيل حركة الأطراف إلى عمل إرادي.
الآن يتشقق الصبر، وتطمس عواصف المزاج الأعمى والرمل المنظر والعقل،
ويتلاشى المنظر، وتمتلئ أحلك التجاويف بالغبار والغضب
حتى يعيد المطر المنهمر عقول الرجال والأرض لمكانها مرة أخرى.
ولكن حتى هذه النعم يشوبها الظلام،
والأرض لا تعطي شيئا، بل أنها تطالب بأجرها؛
لأن الفيضانات تجدد الحياة
وتبعث الثارات المستمرة عقودًا،
وتسفك دماء جديدة لتختلط بالدماء القديمة
في نزاعات حول تلك الحقول القاحلة.
ولا تعويذاتك، أيها الملك العجوز، ولا تهديداتي العبثية يمكن أن توقف هذا القتل الذي تولده هذه الأرض.
فالصور القديمة لا تزال بارزة.
ورجال الجبال، المسلحون، المدهونون باللون النيلي الداكن، وتلك الخطوط الملتوية باللون الأزرق،
تتلاقى في الجبال المحيطة،
وتفاوض، أو ربما تجدد الولاء المشكوك فيه لأميرهم.
وتظل أناشيدهم المرتلة للمغامرات القبلية
تتصاعد مع الصراخ، ووابل من الرصاص.
وهل تذكر الخوف، وانتظار الغارات؟
هل تذكر ذلك؟ وهل ترى فعل السنوات،
الرخاء الزهيد،
الذي شيدته الأيدي وذاب في اللهب؟
ومع ذلك فتلك المعارك القديمة كان لها مكافآتها،
وذروة اشتدادها، وابتهاجها لمجرد أنها حيّة،
أما السمعة، والفخر الذي وهبته، أيها الملك العجوز، فلا شك أنهما هادئان في القبر.
3
ومع ذلك، هل لا نزال نتمنى تغيير تلك السبل الموحشة
والفخر الذي حلق بالطائرة الورقية
أيام سنّ السكاكين،
عندما سعى الشباب إلى حفر اسم مشرف على تلاوة ملاحم القبيلة؟
حاولنا أن نفرض شكلا للفوضى،
ونضغط الغبار المتناثر في قالب،
وتمنينا قليلا أن هذا النمط الفوضوي لن يصمد.
وعلى الرغم من أنني أصبحت بعيدا،
فقد أحببت أيضاً هذه الأرض بشغف شديد، مثل شغفك،
بكيت على الأصدقاء المتوفين، ورثيتك،
وعزّاني إخوة لي من قبيلتك.
الآن ماذا بقي؟ بعض الصور الشاحبة،
ذكريات بنية، داكنة، مجعدة لمعتقدات سابقة،
تتشابك حقيقتها مع القصص الخيالية
وتتحول إلى أساطير عندما تنهار الذاكرة.
جيمس ناش 1993
Comments are Closed