(اللهم قارب بيننا قبل الممات وبعده)
د. مسعود عمشوش
اليوم تطل على مركز مدينة سيئون الطويلة مقبرة عمر بامخرمة، التي أنشأت سنة 956هـ عندما مات ودفن فيها الشاعر المتصوف عمر عبد الله بامخرمة، في العشرين من ذي القعدة سنة 952هـ، عن عمر يناهز الثامنة والستين عاماً. وبعد بضع ثلاث سنوات دُفِن إلى جواره السلطان بدر بن عبد الله الكثيري (أبوطويرق)، الذي أصبح عدوه بعد أن كان صديقه. واليوم هناك قبتان متقاربتان في مقبرة بامخرمة: إحداها تظلل السلطان بدر والأخرى، المسطحة، تظلل عمر بامخرمة. اللهم قارب بيننا قبل الممات وبعده.
وفي اعتقادي أن الشيخ عمر بامخرمة، لو خُيِّر في مكان قبره لاختار أن يدفن بجوار شيخيه عبد الرحمن باهرمز وسهل بن عبد الله بن إسحاق في مقبرة الحثم في هينن. فقد عّبر عن حبه للحثم في قصائد عِدّة، قال في إحداها:
جيرة الحثم حنّ القلب إلى معهده حنْ
حن للعهد الأول ذي مضى وأحسن الظنْ
يا رعى الله ليالي الملتقى يا أهل هينن
يوم تراب الحثم كأنه المسك يوزن
لا وحق الله إلا ترابها عندي أحسن
خير وأغلا ثمن لا والنبي ما يثمّن
لأجلكم يا الذي قلبي لكم قده مسكن
فأعلموني روحي اليوم يا من
هم مرادي وميرادي بهم خاف وآمن
وقال في قصيدة أخرى:
جيرة الحثم قد كنّا وقد كان ما كان
قد جرى ما جرى منا بلا عمد نسيان
التقينا وملينا يا حبيبي إلى الثان
فأعف عما مضى من ذاك يا عبد رحمن
فأنتوا أهل الحماية والرعاية والإحسان
وقد ولد عمر عبد الله بامخرمة سنة 884هـ في مدينة الهجرين الواقعة عند المدخل الشمالي لوادي دوعن، الذي كانت اليد الطولى فيه لآل العمودي. وكان الشيخ عمر عبد الله بامخرمة في الجزء الأول من حياته يمارس نوعا من النشاط السياسي من خلال قول الشعر، لاسيما في قصائده الشعبية التي لا تزال تردد إلى يومنا هذا. ولعمر بامخرمة ديوان ضخم يقع في 16 جزءا، لم يصل إلينا منها إلا ثمانية أجزاء.
ولا شك في أن ولاءه لحضرموت والرغبة في تخليصها من أباضية آل يماني هما اللذان دفعا الشاعر عمر بامخرمة إلى مناصرة سلاطين آل كثير ومدحهم. ففي مطلع القرن العاشر تقرّب عمر بامخرمة من السلاطين، واستقر في عاصمتهم هينن، وشرع في مدحهم واستنهاضهم في حروبهم ضد آل يماني والبرتغاليين والعوالق. وكان عبد الله بن جعفر الكثيري من أول من مدحهم عمر بامخرمة في قصيدة طويلة يحرضه فيها على القضاء على آل يماني في شرق وادي حضرموت، وقال فيها:
يا فاتحا بالسيف كل مدينة ومذيق عاصيها مرير الحنضل
نيطت بك العليا فقمت بحقها وفتحت منها كل باب مقفل
وسلكت كل طريقة محمودة في نصرة الدين الحنيفي الجلي
فأنهض مُزيحا لبس كل مطرف زاهٍ بالدرع الثقيل استبدل
وأشهر مواض العزم وأركب في سباق الفتك كل مهمهم ومحجل
فالملك ليس وريقة أغصانه حتى تطالعنا جياد الجحفل
وتقود نحو تريم كل غضنفر يسطو كليثٍ في الحديد مسربل
نبغى عليهم كل يوم غارة شعواء يذوب لها صميم الجندل
يمسون أسرى بعد قتل سراتهم ونطأ على هاماتهم بالأرجل
وفي هينن يتابع بامخرمة المعارك التي كان آل كثير يخوضونها في مختلف مناطق حضرموت؛ ففي مطلع شهر رمضان من عام 942هجرية بدأت في الشحر تعبئة الناس للجهاد بعد وصول الأخبار بأن سفن البرتغاليين تقترب للهجوم على المدينة، وانتشرت أخبار استعدادات أبي طويرق للتصدي لهم. وبهذه المناسبة نظم عمر بامخرمة قصيدة يمدح فيها السلطان بدر، الذي -لفترة- أصبح قريبا منه، قائلا:
يقول بو علـيا بـدا بـدر السعـادة واستـنـار
أضاء على الأرض حتى أطفأ بنوره كل نار
وأمست وجوه الكفر وأهل الكفر يعلوها قتار
فالحمد لله طاب لأهل الشحر فيها ماء الآبار
وأسفر محّيا الدَّين وآثرنا وخـدنا كـل ثـار
من عابدي الأوثان في تثليثهم لا زاد ثــار
الله نصر الإسلام بك يا بـدر يا عالي المنـار
يا تاج رأس الملك يامن صيته استعلى وطار
حتى ملا الآفاق وأمسى كل خارب به عمار
هو ذا حسابي فيك يا ذي به إلى أمثالك يشار
ذا المسك المحمود ذا ساس المعالي والفخار
به طابت الدنيا وبـه يبنـى في الفردوس دار
يا لله على ذا الحال لا عديت تستوطي الوعار
فإنك شهرت الدَّين زاد الله بك الدَّين اشتهار
وعندما وصلت أنباء انتصارات أبي طويرق على البرتغاليين في الشحر إلى مسمع الشيخ عمر بامخرمة في هينن، قال هذه القصيدة التي يتحسر فيها لعدم مشاركته في المعركة:
يا ريتـنا سايرت في مسراك يا بدر القطار
با حمل لك الرَّاية وبا كثّر سواد أهل المغار
وأدخل معك في الباب ذي تدخله في دبار
ما غير ذِه مرَّه وعـاد الله يعـودها مرار
إن الفلك بالنصر لك يا بدر والتوفيق دار
وأيامك الغـراء تراها نوَّها بالغيث ثـــار
وأنواد واديها سرى فيها الصبَّا الشرقي وثار
فاستغنم الفرصة وطيب اليوم خلَّه للتـجـار
طهر بسيفك الأرض غيّر به غيار أهل الغيار
الشحر قدها لك ووادي الغيد والحرجاء ظفار
والناس بيـن إيديك سـكَّان البوادي والقـرار
وإذا كان الشاعر عمر بامخرمة يعارض رغبة السلطان بدر في الهيمنة على الهجرين كما يروي المؤرخون، فهو بالمقابل يستنهضه ويحثه على توسيع حدود مملكته وضم أرض العوالق وميفعة التي كان يحكمها (ابن سده)، وذلك في قصيدة بدأها على النحو الآتي:
طاب يابن يزيد الماء نعم طاب وردِه
طاب ياهل الغناء شلوه ردَّه بردَّه
طيـبو إنا نبـا كـل يجـيـنا بـجهــدِه
في زها بـدر لا قبـله ولا عـاد بعـدِه
بـدر ذي وسَّــع الله لـه بهمّـَتـه حـدَّه
ذي بسيفه ملك ما بين حاسك وصعدِه
قـل لبـدر بن عبـدالله إذا جيـت عنـدِه
قـل له إنا نبا المغـدا ذا أقصدُك إغـدِه
سر وناسير والعسكر على شب وقـدِه
فالـمـره سـاهـلِه للعـقـد مـا عـاد عــدَّه
ماتبـا إلا حصانـك قـل لعـبـدك يـشــدَّه
حجـر في شهـرنا والعولقي وابن سـدَّه
قبل طعن القنا والسيف يضربك حـدَّه
ما تنظر ترى العـربان في كـل بلـدِه
وطوا الراس له واستمطروا غيث وجدِه
كـل سلطـان قـده اليوم بالسّـَيف عبـدِه
ومن الواضح أن العلاقات الإيجابية بين عمر بامخرمة وسلاطين آل كثير ظلت في إطار الاستنهاض والتحريض والمديح. أما في الجزء الثاني من حياته التي وهبها للتصوف فقد نظم عمر بامخرمة قصيدةً عدَّ فيها السلطة والتقرّب منها “من كبار الكباير”، وقال:
يا هل طرّد الهوا وطيبوا المساير
وأخلصوا مثلي إني أخلصت باطن وظاهر
ما بغيت التفت لأهل الدول والعساكر
لا.. ولا أبغى مع أصحاب الكتب والمحابر
لا … ولا لي شفاية في الخطب والمنابر
عند الرياسة من كابر الكباير
ما أبغى إلا مجنب في طريقي وعابر
وحدي إن قالوا إنك نافق أو قيل باير
لذلك لم تدم العلاقة الطيبة بين عمر بامخرمة وبدر أبي طويرق، وسرعان ما برزت بينهما الخلافات. ويورد الباحث عبد الرحمن جعفر بن عقيل، الذي كرس كتابا لتصوف عمر بامخرمة وحياته وشعره، أسبابا عدة للخلاف بين أبي طويرق والشاعر المتصوف عمر بامخرمة. منها أسلوب “معالجة السلطان بدر للقضايا المحلية، وطريقة تعامله مع خصومه في الداخل، وإيثاره للقادة الأتراك، وتفضيل قبائل يافع والعوالق وإعطائهم مكانة متميزة في جيشه، وتهميش التحالف القبلي الظني”. (عمر بامخرمة السيباني، 884-952هـ، حياته وتصوفه وشعره، ص149). ويضيف عبد الرحمن بن عقيل “ومن دوافع معارضة بامخرمة لأبي طويرق رأيه في أن الحكم بدأ يفقد روح العدالة، وأن الجور والفساد قد عمّ وأطبق”. ص150.
وبالمقابل، يتحفظ الباحث جعفر بن عقيل بشدة على “تلك الآراء التي تتناولها بعض المراجع التاريخية المحلية من أن سبب الخلاف بين السلطان بدر وبامخرمة هو وقوف بامخرمة كزعيم وطني يعارض استعمار وطنه قرية الهجرين، ويناهض سياسة الدولة المحتلة”. ص166
ولا شك في أن ميل عمر بامخرمة في الجزء الأخير من حياته إلى التصوف كان من الأسباب التي ساعدت على اختلافهما، فعمر بامخرمة وعدد آخر من العلماء والأدباء الذي كانوا في الغالب ممن مالوا إلى التصوف كانوا قد ابتعدوا عن السلطان بدر وتقربوا من منافسيه الأمراء مثل ابن عمه علي بن عمر الكثيري الذي كان يحكم شبام، وكان مفضلا لدى الصوفية.
وفي الحقيقة، كان الصراع العلني بين صوفية حضرموت والسلطان بدر موجودا قبل أن يبرز خلافه مع عمر بامخرمة. ويؤكد الباحث عبد الرحمن جعفر بن عقيل أنه “لم يكن هناك أي ود بين شيوخ التصوف في حضرموت وبين السلطان بدر بن عبد الله الكثيري، وفي خطوة لإنهاك أبي طويرق داخليا وتشتيت جهوده تمّ فتح جبهة معادية له في دوعن تحت قيادة أسرة آل العمودي التي تميل إلى اعتناق التصوف”. (عمر بامخرمة السيباني، ص 130)
وفي إطار مساندة مشايخ المتصوفين نظم عمر بامخرمة قصيدة يمدح فيها شيخه المتصوف سهل بن إسحاق، ويندد بغرور بدر أبي طويرق، قائلا:
بالغريب انقطع من بور حبل المودة وانقضى الأمر والقى يا علي بدر جهده
غرّه المُلك وامره ما درى ايش بعده من تصاريف حكم الله وَحله وعَقده
فأقر قولي وفسّر ما انكتم منه وأبده واحك للناس واقصد ذي نبا منك قصده
ربنا جل ذي المولى له الأمر وحده سلهُ ثم ادع من بعده عبيده وجنده
للملمات حين الدهر يسطو بحده فأدع سهل ابن عبد الله يصل سهل جده
فوق رؤوس الملا بادي على كل بلدة قهر وإلا تركنا القول هزله وجده
ولم يتردد عمر بامخرمة كذلك في هجاء السلطان بدر في قصيدة يواسي فيها الأمير محمد بن بدر الكثيري الذي سجنه السلطان أبو طويرق ستة عشر سنة في حصن مريمة، وقال فها:
يا ولد بدر لا عدَّى لك السَّعد مِقبل
فإن خصمي وراسك خصم جوّار مبطل
غير تيّاه في خطمهْ يولّي ويعزل
قلت له راقب الله في ولايتك واعدل
ما هو إلا غشوم أحمق يقيّد ويقتل
قال: ذا سالفي فإن عجبك يا عمر حِل
وإن كان ما عجبك شي قرّب ركابك وحمّل
خلّ ما أنا إلا من يصبر ويدوِّر للمنهل
ما دريت أن أمير أهل الهوى ليس يُهمل
وإثر ذلك قام السلطان ابوطويرق بنفي الشاعر عمر بامخرمة إلى ظفار، ثم إلى الشحر. أما سبب قضى عمر با مخرمة السنوات الأخيرة من عمره في سيئون، فيرى الباحث عبد الرحمن بن عقيل لا يكمن في إقدام السلطان بدر أبو طويرق على نفيه من هينن، بل في تصرفات بامخرمة وشطحاته المبالغ فيها، وقد كتب ابن عقيل: “قضى الشيخ عمر بامخرمة أواخر سني إقامته بهينن منصرفا نحو السماع إلى حد أنه لا يفتر عنه. وروي أنه سلك مسلك شيخة عبد الرحمن باهرمز في جمع النساء الحسان حوله، وقوله القصائد التي يعبّر فيها عن مواجيده واستغراقاته الصوفية والنساء من حوله يغنين ويرقصن… لقد تمادى الشيخ عمر بامخرمة بشكل صارخ في سلوكه وشطحاته الصوفية، مما دفع الفقهاء للإنكار عليه وتأليب الناس في هينن ضده.. واستغل السلطان بدر أبو طويرق ذلك الشعور العام ضد بامخرمة وما كان منه إلا أن وجّه ضربته الأخيرة ضد هذا الشيخ الصوفي العنيد والمعارض، فساهم بصورة أو بأخرى في تأجيج الشعور وتأليب الناس ضده، فقاطع الناس بامخرمة واندفع بعض الطائشين صوبه أثناء مروره برميه بالحجارة وحرقه بالنار وإطلاق صيحات الإنكار والتهديد، بل وصل الحد أن أطلق عليه الكلاب السَّبّق، فأحس الشيخ عمر بالخطر على نفسه في هينن، فطلب من السلطان بدر الرحيل إلى سيئون، فأذن له السلطان بذلك”. ص151-153
وقال عمر بامخرمة في ذلك:
جيت هينن ولي فيها مواثير وآثار
جيت إليها ولي فيها ودواير وأدوار
باسط آمال في هينن وبأبني بها دار
فأعتكس الأمر حتى عقّنا منهم البار
لا الذي حب رحّب ولا ثار لي جار
غير من شافنا مقبل إلى نحوه أزوار
فأنكرونا وكل من ناكر أهله التنكار
يا الله اليوم لا تبقي على الدور ديّار
حرقوني وآذوني رموني ونا مار
لي رمتهم مراميهم بلا نبل وأوتار
قلت ياهل المرامي إيش باب التثوّار
ما يليق المثار إلا لمن لا له إيثار
وأنتم أطلقتم السُّبَّق على العابر المار.
وانتقل الشيخ عمر بامخرمة إلى سيؤن التي كان يحكمها حينذاك السلطان محمد بن عبد الله الكثيري. واستقر بها وتزوج فيها عند المشائخ آل بانجار، وأصبحت سيئون بفضل استقراره بها مركزا روحيا مهما، وأقبل عليه عدد كبير من المحبين والمريدين. ويؤكد ابن عقيل أنه “تولى فيها الزعامة الصوفية”. ص159
ومع ذلك ظلّت هينن بالنسبة للشيخ عمر بامخرمة هي العاصمة الروحية، ولذلك لم يطب له المقام تماما في سيئون، وكان يتمنى أن تكون سيئون قريبة من هينين، وشحوح الواقعة في غربها هي عرشان الواقعة غرب هينن، وقد عبّر عن ذلك في إحدى قصائده السيئونية، قائلا:
ريت يا فاطمة هينين إلينا تقرّب
ريتها بين بامدرك وبرّاجح تعرّب
ريت عرشان يرجع في شحوح ابن ثعلب
كان طابت لنا سيئون يا سؤل من حب
وانشرحنا بقربك يا سّبيِّب المسبب
يا دواء كل داء يا أغلى من المسك وأطيب
ما تجي عندنا ساعة مع النود لا هب.
Comments are Closed