موقع ثقافي تعليمي

الأدب الشعبي الحضرمي بين لاندبرج وسرجانت

(من مقدمة كتابي: حضرموت في كتابات روبرت بوب سرجانت، يناير 2023)

مسعود عمشوش

لماذا اهتم المستعربون بالأدب الشعبي في حضرموت؟

إثر أحداث 11 سبتمبر 2001، قررت الولايات المتحدة الأمريكية إرسال عدد كبير من عناصر استخباراتها إلى حضرموت لدراسة لهجة البلاد والتعرف على طريقة تفكير الحضارم في تلك الفترة، وذلك بعد أن تبيّن لها أن بعض الطيارين الذين اشتركوا في هجمات 11 سبتمبر كانوا يستخدمون تلك اللهجة، وتسربت كثير من عناصر الاستخبارات الغربية بشكل عام إلى داخل مختلف المعاهد والحلقات الدينية الموجودة في وادي حضرموت، في كثير من الأحيان بذريعة انتسابها إلى هذا الفئة الدينية أو تلك، وحرصت الاستخبارات الغربية على اختيار تلك العناصر من بين مواطنيها الملونين: آسيويين وسود، ومن النادر أن يكون بينهم بيض.

وفي الحقيقة، لم يكن سعي الدول الاستعمارية الغربية إلى دراسة حضرموت وأهلها ولهجاتهم وعاداتهم أمرا جديدا، فمن المعلوم أن هولندا قد كلفت الضابط المستعرب فاد در بيرخ برفع تقرير عن حضرموت سنة 1885، ونشر منه نسخة باللغة الفرنسية سنة 1886 بعنوان (حضرموت والمستوطنات العربية في الأرخبيل الهندي، انظر ترجمتنا للكتاب)، وفي مطلع ثلاثينيات القرن الماضي كلفت هولندا قنصلها في جدة، فان دن ميولن، لزيارة حضرموت ورفع تقارير عن سكانها، الذين ترى أن جزءا منهم رعايا لها (انظر كتابنا: حضرموت في كتابات الغربيين). وقبل أن توقع بريطانيا معاهدات الاستشارة مع سلطنتي حضرموت في نهاية ثلاثينيات القرن الماضي كلفت الضابط هارولد انجرامز برفع تقارير مختلفة عنها، وقد استفاد انجرامز كثير من تقرير فان در بيرخ.

ومن الملاحظ أن الدول الغربية حرصت كذلك على استقطاب عدد من العلماء المستعربين والرحالة المغامرين للعمل ضمن دوائرها الاستخباراتية العاملة في حضرموت؛ ففان دن بيرخ وفان در ميولن وهارولد انجرامز وروبرت سرجانت كانوا في الأساس علماء مستعربين، وتحمسوا للعمل مع المؤسسات الاستخباراتية ليتكنوا من القيام بدراسات ميدانية تدخل ضمن تخصصاتهم العلمية.

وهناك مجموعة من الرحالة المغامرين الغربيين، عسكريين ومدنيين، الذين جاءوا إلى جنوب الجزيرة العربية وانتهى بهم الأمر بالعمل ضمن المؤسسات الاستخباراتية البريطانية، مثل علي منصور وفريا ستارك، وكتبوا نصوصا مهمة حول رحلاتهم في بلادنا.

ومن بين هؤلاء المستعرب السويدي الكونت كارلو دي لاندبرج، الذي عينته جامعة النمسا مشرفا لبعثتها لدراسة لهجات جنوب الجزيرة العربية في نهاية القرن التاسع عشر، وكتب مجلدات عدة حول لهجة حضرموت ولهجة دثينة. وقد ضمّن كتابه عن لهجة حضرموت، سنة 1900، مجموعة مهمة من النصوص النثرية والشعرية باللغة العامية. وفي سنة 2020 قمت بإصدار كتاب عن (لهجة حضرموت في كتابات الكونت كارلو دي لاندبرج) ضمنته جميع النصوص الشعرية والنثرية الحضرمية التي ضمنها في كتابه، والتي اطلع عليها المستعرب روبرت سرجانت قبل مجيئه إلى حضرموت في شتاء 1947-1948 بتكليف من إدارة المستعمرات البريطانية، لدراسة لهجة حضرموت وأدبها ومجتمعها، وذلك بهدف إحكام السيطرة عليها.

في مقدمة كتاب (نثر وشعر من حضرموت، ترجمة سعيد دحي، 1951) يبيّن روبِرت سِرجانت سبب مجيئه إلى حضرموت سنة 1947 إلى حضرموت على النحو الآتي: “خلال عام 1947-1948 تم اختياري عضوا باحثا في شئون المستعمرات للقيام بالعمل في حضرموت؛ فتوجهت بصحبة زوجتي إلى تريم عن طريق المكلا، حيث مكثنا حوالي سبعة أشهر، قمنا خلالها بزيارة عينات وقسم وقبر هود وسيئون ..إلخ. وكان الهدف من أبحاثي تلك تقديم دراسة عن مظاهر الحياة والحضارة في حضرموت من خلال اللغة التي يتحدث بها أهل تلك البلاد (العامية)، وتقديم حقائق وبيانات صحيحة وثابتة ذات صبغة موضوعية، وليست ذاتية. وتنفيذا لهذا الهدف ركزتُ على جمع قصائد من الشعر العامي، وقمت بفحص ما عثرت عليه من مخطوطات في المكتبات. كما قمت بشراء بعض النماذج والمواد ذات الطبيعة الثقافية لضمها إلى مقتنيات متحف المعمار وعلم فصائل الأجناس) بجامعة كمبريدج. وقمت أيضا بجمع مجموعة من الوثائق المتعلقة بالقانون القبلي والتركيبة الاجتماعية للبلاد. وقد أجريت تلك الأبحاث والدراسات في مناطق الحضر والمدن أكثر من المناطق البدوية والقبلية.”. ص17

ومن اللافت أن روبرت سارجانت، بعكس الكونت دي لاندبرج، قد ركز على دراسة الأدب الشعبي الحضرمي وأهمل دراسة اللهجة الحضرمية، ويفسر سرجانت تركيزه على جمع الشعر والنثر وليس على دراسة لهجة حضرموت باكتشافه أن محمد بن هاشم وعلي بن عقيل كانا يقومان بجمع مواد لغوية تتعلق بتلك اللهجة المحلية، وكتب في مقدمة كتابه: “كما أن المحاضر البروفيسور سيف ابن السلطان حسين القعيطي من الجماعة العثمانية بحيدر أباد يقوم بعمل مماثل وسيكون من الإسهاب والزيادة قضاء عام كامل في عمل يقوم به دارسون منافسون من أهل البلاد”. ص18

ويرى سرجانت أن الشعر الشعبي هو ديوان الحضارم ومن خلاله يستطيع الباحث ان يتعرف على الحياة الاجتماعية لهم، فقد كتب: “يعد الشعر في حضرموت، كما هو الحال في جميع البلدان الناطقة بالعربية، أحد الفنون الرئيسى، بل انه الفن الأول الذي تمارسه وتتذوقه جميع الطبقات، لهذا فهو يعد مظهرا من مظاهر الحياة وربما الكثير بروزا في مختلف الأنشطة والاحتفالات الشعبية، ولذلك بات بالإمكان العثور على معلومات إضافية عن جميع مظاهر الحياة العربية تقريبا بواسطة الشعر وبالأحرى بواسطة الشعر الشعبي السائد بين عامة الناس، إذ ان الشعر الفصيح (الكلاسيكي) يحتاج إلى كثير من الشروحات لمعرفة مناسبة قوله وأغراضه وأسلوب نظمه. لهذا فالشعر الشعبي العامي يعد للمختص في الدراسات اللغوية العربية وثيقة غنية بالملاحظات والمعلومات عن مختلف مظاهر الحياة في جنوب الجزيرة.

وقد أصبح كل همي اكتشاف العادات والحوادث والمعتقدات التي يتنواولها الشعر اللعامي لتكون مادة لدراسة المجتمع العربي في جنوب الجزيرة العربية في الماضي والحاضر، ويمكن أت تشكل هذا المادة الموثقة مرشدا ودليلا لعالم الاجتماع الذي يبحث عن تفسير لبياناته ومعلوماته، ومساعدا فعالا للمؤرخ الذي يبحث عن تفسير للنصوص والاستنتاجات التاريخية. كما أنها ترفد الباحث اللغوي بمادة جديدة ثرية بالمفردات والقواعد ويمكن ان تساعده في دراسة الادب العربي الفصيح وقواعده”.

Comments are Closed