أ.د. مسعود عمشوش
يُعد النقد، بشكل عام، دراسة تحليلية لنص ما، تحريري أو شفهي، وذلك بهدف معرفة مدى التزامه بمعايير الجنس الذي يقع في إطاره، وتبيان مواطن القوة والضعف والقبح والجمال فيه، بما يبرر إصدار حكم تقييمي له، وتشجيع مؤلفه على تكريس جوانب القوة والجمال في نصه وتجنب الوقوع مجددا في نقاط الضعف، أي أن النقد يهدف إلى الارتقاء بمستوى النص.
والنقد الترجمي يسعى إلى القيام بدراسة تحليلية لنصين (أو أكثر) من لغتين مختلفتين، يكون أحدهما (النص الأصل SL) أصلا للآخر (النص المترجم أو الهدفTL )، وذلك بهدف تحديد مستوى التكافؤ في المستويات الدلالية والتركيبية والأسلوبية، وتبيان تأثير الاختلاف الحضاري والثقافي (وربما الزماني) بين مؤلف النص الأصل ومؤلف النص الهدف، في الترجمة أو النص المترجم، وذلك وفق مبادئ ومقاييس واستراتيجيات علمية محددة.
فالنقد الترجمي، مثل مختلف أنواع الدراسات النقدية، لا يركن على أحكام ذوقية وانطباعية تستند إلى الذائقة الفردية، بل يرتكز على معايير ومقاييس هدفها تقويم النشاط الترجمي بشكل علمي ومنهجي. لهذا يكتسب النقد الترجمي أهمية في تطوير النشاط الترجمي في مختلف اللغات؛ فهو يدفع الممارسين للترجمة إلى الالتزام بضوابط الترجمة المعيارية والارتقاء بها إلى درجة عالية من الدقة والأمانة وتجنب الوقوع في الأخطاء وسوء الفهم.
وبما أن النقد الترجمي تتداخل فيه تخصصات عدة، مثل النقد الأدبي والنقد الثقافي واللسانيات التطبيقية وعلم الاجتماع والتاريخ، فهو يدخل في إطار الدراسات البينية الحديثة. وفي بريطانيا يتم المزج بين تخصص الترجمة وتخصص الأدب المقارن، بل أن الأستاذة البريطانية سوزان باسنيت تؤكد أن الدراسات الترجمية حلت في مكان الأدب المقارن الذي مات (انظر كتابَيْ سوزان باسنيت، (الأدب المقارن مقدمة نقدية)، و(الدراسات الترجمية).
ومن الطبيعي أن ينطلق ناقد الترجمة من المعايير والمقاييس الضابطة للترجمة بوصفها عملية تواصل لساني مزدوجة، يتم خلالها نقل رسالة ألفت في لغة مختلفة عن لغة متلقي النص المترجم، ويفترض أن تتم بأمانة، وأن تتوخى حدود معينة من التقارب الدلالي والتركيبي والأسلوبي. وعلى الرغم من أن كل ترجمة تتوق إلى احتواء كامل القيم الدلالية والأسلوبية والتركيبية للنص الأصلي، فمن المسلم به أن التماثل أو التطابق يظل بعيد المنال، فهناك عوامل عدة تجعل من الصعوبة بمكان الوصول إلى تطابق تام بين نص أصل وترجمته في لغة أخرى، وذلك بسبب إسهام العناصر السياقية غير اللغوية والمكونات الاصطلاحية والمعاني مجازية في تشكيل دلالة كل من النص الأصلي وترجمته، ويمكن الحديث فقط عما أصطلح عليه في النقد الترجمي بـ(التكافؤ the equivalence) ، أي مدى درجة قرب هذه الترجمة أو تلك من الأصل. ولهذا يعد التكافؤ من أهم المفاهيم المعيارية التي يهتم بها النقد الترجمي وكذلك نظريات الترجمة. وبعد أن كان نقاد الترجمة ومنظروها يتحدثون عن صحة الترجمة أو خطأها، أصبحوا، منذ سبعينيات القرن الماضي، يركزون على قربها أو بعدها من النص الأصل.
وفي الحقيقة لا يزال مفهوم (التكافؤ) من المسائل المعقدة جدا في النقد الترجمي، فإذا كان التكافؤ بين الأصل والترجمة يمكن أن يتحقق في المستوى الدلالي فهو يظل نسبيا حينما يتعلق الأمر بالأبعاد الأسلوبية والجمالية للترجمة، لاسيما الترجمة الأدبية. وقد دأب معظم منظري الترجمة ونقادها، مثل كارتفورد وداربلينت، على دراسة التغييرات التي تطرأ على مضمون النص الأصل وشكله عند الترجمة، وبلورة مبدأ (التكافؤ the equivalence) وتضمين كتاباتهم تصنيفات مختلفة له، مثل التكافؤ الدلالي، والوظيفي، والشكلي، والنصي، واللغوي، والتركيبي والأسلوبي والبراغماتي ..إلخ.
واليوم، في كثير من أقسام الترجمة، يتم تبنِّي تقسيم المنظر الأمريكي يوجين ألبرت نايدا أو الناقد الفرنسي أنطوان برمان للتكافؤ. فبالنسبة لنايدا، ينبغي التمييز بين نوعين رئيسيين من التكافؤ: تكافؤ شكلي وآخر ديناميكي (أو متحرك). ويؤكد نايدا أن الترجمة التي تعتمد مبدأ التكافؤ الشكلي تقوم بإعادة النص الأصلي بطريقة آلية، شبه حرفية، ويحاول فيها المترجم الحفاظ على تراكيب النص الأصل وأسلوبه بما في ذلك الشعرية، ويسمي نايدا هذا النوع من الترجمة بـ(الترجمة الشرحية) التي تلجأ إلى وسائل عدة لإيضاح دلالة النص الأصل، وهناك دراسات كثيرة تصدت لاستراتيجيات الإيضاح التي يستخدمها عاد المترجمون لضمان توصيل ما يعتقدونه (مقصدية) مؤلف النص الأصل (انظر مثلا استراتيجية الايضاح في الترجمة رسالة ماجستير للباحثة حيزية سلمي). وترى سوزان باسنيت أن السعي لتحقيق هذا النوع من التكافؤ يحتوي على إيجابيات وسلبيات في الآن نفسه، فالمترجم حين يتوق إلى تمكين القارئ من فهم الدلالة الحرفية للنص الأصلي قد يؤدي إلى تشويه منتجه الترجمي أو الترجمة. (انظر سوزان باسنيت دراسات ترجمية ص52)
أما الترجمات التي تطمح إلى تطبيق مبدأ التكافؤ الديناميكي فتعطي الأولوية لمبدأ (التأثير المتكافئ)، أي أنها تحاول، وفق نايدا، أن تحدث في قارئها الأثر نفسه الذي يحدثه النص الأصل في قارئه، فيأخذ المترجم في الاعتبار الظروف والمعطيات السياقية الخاصة بقارئه عند نقله للنص الأصلي، ويدخل بعض التغييرات عليه، فيكون الأسلوب والنحو مقبولين مع الحفاظ على جوهر النص الأصل، وهكذا تلقى الترجمة نجاحا وقبولا واسعا ربما يفوق النجاح الذي حظي به النص الأصل. مثال على ذلك (ألف ليلة وليلة)، التي خضعت ترجماتها من اللغة العربية إلى اللغة الفرنسية لمبدأ التكفافؤ (الديناميكي)، الذي يحتم على المترجم الأخذ بعين الاعتبار الظروف الحضارية والثقافية لمتلقيه وإضافتها إلى منتوجه المترجم، مع الحرص على عدم الابتعاد من النص الأصل. فترجمة الليالي العربية التي قام بها أنطوان جالان في مطلع القرن الثامن عشر لاقت نجاحا كبيرا في فرنسا وخارجها لأنها اتخذت أسلوب عصر التنوير، واشتهرت كذلك ترجمة الليالي التي قام بها ماردروس في بداية القرن العشرين وجاءت صياغتها بأسلوب المذهب الرومانسي بسبب تأثرها الكبير بأسلوب ذلك المذهب الذي كان سائدا آنذاك. (انظر مسعود عمشوش، تقنيات السرد في ألف ليلة وليلة وتوظيفها في الأدب الفرنسي في القرن الثامن عشر).
أما أنطوان جالان فتارة لجأ إلى اختصار النص العربي بحذف كلمات أو جمل أو مقاطع أو فصول منه، وتارة أضاف إلى نص ترجمته بعض الجمل التي لا وجود لها في النص الأصل والتي قام فيها بشرح بعض الظواهر الخاصة بالشرق أو الإسلام، وذلك رغبة منه في شرح النص وتوضيحه، لاعتقاده أنه يقدم بذلك خدمة للمتلقي. وقد رأى أن نص الليالي، السردي الخيالي، لا يحتمل وضع الشروحات في الهامش، كما يفعل كثير من المترجمين اليوم في الترجمات العلمية المحكمة أو (المشروحة).
وعادة يركز التحليل النقدي للترجمات الأدبية على الأسلوبي، ثم على التكافؤ الدلالي. وفي هذا المستوى يتناول الناقد مدى التزام المترجم بدلالات النصّ الأصل ونجاحه في تضمينها نص ترجمته. ومن المعلوم أنّ الدقة والأمانة في المستوى الدلالي في الترجمات الأدبية مسألة نسبيّة، وأن تحقيق التكافؤ الدلالي الكامل بين الترجمة والأصل أمر نسبي أيضاً. ومع ذلك، لابدّ من التفريق بين نوعين من الانزياحات الدلالية في الترجمة: نوع طفيف أو ضئيل، وهو كثير الورود ولا يمكن أن تخلو منه ترجمة أدبية، ونوع آخر يتمثل في الانزياحات الكبيرة أو الفاحشة التي ترجع أمّا إلى خطأ في فهم النص الأصلي، أو إلى خطأ في التعبير عن الدلالة بلغة الهدف.
وختاما نرى أن مفهوم التكافؤ يكتسب في إطار النقد الترجمي، الذي يرتكز إساسا على مقارنة الترجمات مع أصولها بهدف معرفة مدى اقترابها أو ابتعادها منها، أهمية بالغة. وبما أن التكافؤ الجيد بات شرطا للترجمة الجيدة، فمبدأ التكافؤ يعد حقا أداة تقييمية مهمة لجودة الترجمة ورداءتها. وكما قلنا في بداية حديثنا، يهدف النقد، أي نقد، بعد قيامه بالتحليل اللازم، إلى إصدار حكم تقييمي مُبرَّر. كما يساعد مبدأ التكافؤ على تطوير أداء المترجم من خلال إبراز العناصر التي عليه الحفاظ عليها أثناء الترجمة.
Comments are Closed