موقع ثقافي تعليمي

الجامعة في عصر التخصصات المتداخلة والدراسات البينية

أ‌. د. مسعود عمشوش

من المعلوم أن (التخصص) في إطار المعرفة العلمية يعدُّ مفهوما تنظيميا أساسيا؛ إذ أنه يؤسس فيها لمبدأ توزيع المعرفة إلى ميادين علمية – أو تخصصات-متنوعة. وعلى الرغم من أن أي تخصص يدخل في إطار كل معرفي أوسع وأشمل فالتخصص يميل تقليديا إلى الاستقلالية وذلك من خلال رسم حدودٍ خاصة به، ووضع مصطلحاته اللغوية، وتحديد التقنيات – وربما النظريات- التي يوظفها. ومن أبرز الفوائد التي اكتسبها العلم نتيجة للأخذ بمبدأ التخصص تركيز القدرات العقلية المحدودة للإنسان (الفرد) على مجال معرفي محدد وإبعاد العلم عن خطر السطحية وشبح الغموض. كما ساعد العمل بمبدأ التخصص العلماء على تعميق أبحاثهم والاهتمام بالجزئيات والذرات.

وتاريخيا، ظهر التنظيم التخصصي للمعرفة في القرن التاسع عشر مع افتتاح الجامعات الحديثة، ثم تطور مع تقدم البحث العلمي في القرن العشرين، أي أن تاريخ التخصصات اقترن بنمو الجامعات الذي ارتبط هو الآخر بتطور المجتمع. ومن الطبيعي أن يفترض البحث في ماهية التخصص الإلمام الجيد بالتخصص نفسه. لكن ينبغي التأكيد أنه لا يكفي أن تكون داخل تخصص ما لكي تلم بمختلف القضايا المتعلقة به وبموضوعه. إذ أن البحث في التخصص يفترض كذلك معرفة العناصر العلمية والاجتماعية المحيطة به. لهذا فالبحث عن ماهية التخصص يدخل أيضا في إطار سوسيولوجيا المعرفة والعلوم.

ولا شك في أن العمل بمبدأ التخصص قد أفرز لدى بعض العلماء ميلا إلى الانغلاق داخل جزئيات علمية ضيقة جدا، وأنساهم ذلك أن (الشيء) الذي يدرسونه ليس إلا جزءا مقتطعا من كل، وانصرفوا بالتالي عن البحث عن علاقة ذلك الجزء بالأجزاء الأخرى من الكل وعلاقة تخصصهم بالتخصصات التي تدرس تلك الأجزاء الأخرى. وفي كثير من الأحيان أدت الحدود النظرية والموضوعية واللغوية لتخصص ما إلى عزله عن التخصصات التي تتداخل وتتقاطع معه بشكل طبيعي وجوهري. ويمكن القول إن روح التخصص قد أفرزت مبالغات غير مبررة في تقسيم بعض الميادين إلى (شعب) أولا، وبعد ذلك إلى تخصصات جديدة مستقلة. كما أن تطور العلم والتكنولوجيا أدى إلى ظهور فروع علمية جديدة. وكلما ظهر فرع علمي جديد سرعان ما يتحول إلى تخصص جديد. ومن منطلق توزيع العمل وطبيعة التأهيل العالي يسعى كل عالم إلى إن يصبح هو الملك داخل تخصصه ولا يتردد في الدخول في منافسة وصراع مع الخصوم من الداخل والخارج للدفاع عن تخصصه.

وتُعد (الجامعة (University، لغة واصطلاحا، مؤسسة علمية تأهيلية بحثية جامعة لمختلف التخصصات العلمية والإنسانية في كيان واحد، ويكمـل نشاط كل قسم منها نشاط الأقسام الأخرى. ومن المعلوم أن النصف الثاني من القرن العشرين قد شهد بروز عددٍ كبير من المعارف والعلوم الجديدة والتطورات التقنية والاجتماعية والمهنية التي عملت على تقليص الحدود -أو إزالتها-بين التخصصات، إلى درجة أن التداخل والتعاون والتمازج بين التخصصات والأقسام العلمية المختلفة باتت هي سمة العصر التي تسعى معظم الجامعات في البلدان المتطورة إلى اكتسابها.

كما دفعت تلك التطورات العلمية والمعرفية والمهنية القائمين على التعليم العالي في الدول المتقدمة إلى إعادة النظر في تنظيم المؤسسات الجامعية والبحثية التابعة لها بغرض استيعاب ظاهرة تداخل التخصصات والفروع العلمية في برامج التأهيل والتعليم والبحث العلمي. وقد ترتب على ذلك اتباع سياسات تعليمية جديدة. فبسبب ارتفاع عدد التخصصات العلمية قامت بعض البلدان إلى (تفريع) بعض جامعاتها مع إبقائها تحت مظلة علمية أعلى تسمى (الأكاديمية). وأقدمت بعض الجامعات على استحداث برامج رائدة تستوعب بشكل أفضل ظاهرة التخصصات المتداخلة أو (البينية (interdisciplinary ، التي تمتد في أكثر من قسم علمي وأحيانا في أكثر من كلية، مثل (برنامج المعلومات الصحية: برنامج تتداخل فيه علوم الحاسب الآلي وصحة المجتمع)، وبرنامج (الميكانيكا الحيوية: برنامج تشترك في إعداده أقسام التربية الرياضية والهندسية الميكانيكية والعلاج الطبيعي). واليوم بات من النادر ألا نجد جامعة كبيرة لا تضم قسما للهندسة الطبية. بل أن بعض الجامعات أقدمت على إنشاء كليات خاصة بالدراسات العليا تجمع بين العلوم التطبيقية وبين العلوم الإنسانية كما هي الحال في جامعة مونتريال في كندا التي تمنح شهادات عليا في تخصصات علمية مزدوجة ولا ترتبط بتخصص علمي تقليدي محدد من برامج المرحلة الأولى من التعليم الجامعي، مثل شهادة الدكتوراه في العلوم الإنسانية التطبيقية أو علوم الحاسوب الحيوية، أو علوم الإحصاء الاجتماعية.

ولهذا السبب نعتقد أن عدم إسراع جامعاتنا في إيجاد الآليات المناسبة للتنسيق بين مختلف الأقسام والتخصصات العلمية ليس فقط على مستوى الكلية الواحدة بل على مستوى الجامعة من شأنه أن يحد من قدرتها على استيعاب التطور المعرفي الكوني ذي الطبيعة المركبة، وكذلك القيام بدورها في خدمة المجتمع بشكل فعال. ولا ضير في أن نرى كلية العلوم الإدارية (تطبب) وتخطط للإدارة وتفتح قسما للإدارة الصحية وآخر للتخطيط والإحصاء، أو أن (تفلسف) كلية الآداب للسياسة وتفتح قسما للفلسفة والعلوم السياسية، وهي مبادرات جديرة بالتقدير، إذ أنها تعكس حرص كليات جامعة عدن على مواكبة المستجدات التي تطرأ على العلم والتعليم في العالم.

ففي هذا العصر- عصر التخصصات المتداخلة والدراسات البينية- يتحتم على جامعاتنا تشجيع أساتذتها على خلق تناغم مثمر بين التخصصات والأقسام العلمية، وأن تحرص على عقد ندوات ومؤتمرات علمية على مستوى الجامعة وليس على مستوى الأقسام أو الكليات، لأن اشتراك أساتذة من مختلف كليات الجامعة في تلك الفعاليات العلمية يمكن أن يساعد على الوصول إلى معالجات متكاملة للقضايا المطروحة للنقاش. وسيمكن هذا الإجراء الأساتذة والباحثين في مختلف التخصصات من التواصل وتبادل المعارف والخبرات، وسيساعدهم بالتالي على الخروج من دائرة التقوقع داخل التخصص العلمي الضيق، وتكوين فرق بحثية تتناول قضايا المجتمع – التي هي بطبيعتها مركبة ومعقدة- من مختلف الجوانب.

ونرى كذلك أن تلك السمة الجديدة للمعارف والعلوم تحتم على الأقسام العلمية إعادة النظر في خططها الدراسية بهدف تضمينها، إلى جانب المواد التخصصية الإجبارية، عددا من المواد الاختيارية (المساندة) من خارج التخصص الدقيق، يقوم الطالب باختيار بعضا منها بما يتناسب مع ميوله وتوجهاته المستقبلية. ومن خلال هذه الآلية سيتمكن الطالب من الاستعداد بشكل أفضل لعصر التخصصات المتداخلة من خلال ممارسة الانفتاح المبكر على أكثر من مجال معرفي. وعند مشاركتنا في تأسيس برنامج بكالوريوس اللغة العربية وآدابها في كلية الآداب عام 2000 حرصنا على تضمينه ثلاث مواد من قسم التاريخ ومادة من قسم الفلسفة. وفي اعتقادنا أن على معظم المراكز البحثية في الجامعة (مثل مركز العلوم ومركز المرأة) أن تتبنى سياسة تداخل التخصصات والدراسات البينية لتستطيع تأطير أكبر عدد من الباحثين والفرق البحثية.

 وقد أثبت التاريخ وجود مفاهيم ومناهج ونظريات (عابرة للتخصصات) يمكن توظيفها في أكثر من تخصص، وإن كان تخصص بعينه هو الذي أفرزها. وقد أثبت تاريخ البحث العلمي أهمية تلك المفاهيم والمناهج والنظريات. فهل كان يمكن لكلود ليفي شتراوس مثلا أن ينظّر للأنثروبولوجيا البنيوية إذا لم يكن قد التقى في إحدى مقاهي نيويورك برومان جاكبسون الذي عرّفه على مبادئ علم اللغة البنيوي؟ وهناك عدد آخر من المفاهيم والمبادئ العلمية التي يصعب حصرها في تخصص بعينه. كما أن هناك ميادين بحثية تفرض بطبيعتها على أصحابها الانفتاح على التخصصات الأخرى والبحث عن إيجاد تكامل أو تبادل معرفي معها. ففي سنة 1953 تحدث المؤرخ الفرنسي لفيفر إلى زملائه قائلا “أيها المؤرخون كونوا جغرافيين، وكونوا حقوقيين، وكونوا علماء نفس وعلماء اجتماع!” ومن المؤكد أن على العالم الذي أن يتخصص في عصور ما قبل التاريخ أن يلم أيضا بالجيولوجيا والأساطير وعلوم الجينات والبيئة. وإذا كان بعض العلماء (ذوي الكفاءات المتعددة) يمتلكون قاعدة علمية واسعة تمكنهم من مقاربة قضايا متشعبة، فهناك مجالات بحثية تستدعي بالضرورة تعاضد أكثر من تخصص للبحث فيها. ومن المعلوم أن بعض الاكتشافات المهمة التي شهدها العالم في السنوات الخمسين الأخيرة، لاسيما في مجال الرياضيات (الحاسوب) والفيزياء والكيمياء والأحياء الجزئية (الجينات) والأنثروبولوجيا، كانت قد وليدة تداخل عدد من التخصصات. ولا بد من الإشارة كذلك إلى أن التقارب الذي نشأ بين المهندسين وبين علماء الرياضيات منذ الحرب العالمية الثانية قد أدى إلى ظهور ما سمي (بالسيبرنتيك) الذي أسس لعلوم الحاسوب والذكاء الاصطناعي. ولا شك أن بروز علوم الحاسوب وتطورها المذهل منذ منتصف القرن العشرين قد أجبر معظم التخصصات على إعادة هيكلة نفسها. وبالإضافة إلى (ثورة الحاسوب) هناك عوامل أخرى كثيرة أدت إلى كسر الحواجز بين التخصصات وساعدت على انتقال الباحثين والمناهج والمفاهيم النظرية من تخصص إلى آخر، ومن ميدان بحثي إلى آخر، إلى درجة أن العمل بمبدأ التخصص لن يكون اليوم مبررا ومقبولا إلا إذا سعى كل تخصص إلى الانفتاح على كل ما يجري خارجه وسلـّم بوجود علاقات عضوية (مركزها الإنسان الذي هو محور العلوم كلها)، و(لوجسيتية) بينه وبين التخصصات الأخرى.

Comments are Closed