تدريس اللغات الأجنبية
تدريس اللغات الأجنبية بين ضرورة الاتصال بثقافة الآخر وضرورة ترسيخ قيم الانتماء والهوية
(نُشِر في أول عدد من مجلة كلية الآداب جامعة عدن 2002)
د. مسعود عمشوش أستاذ الأدب العام والمقارن – كلية الآداب جامعة عدن
يعكس تاريخ أمتنا العربية مدى ارتباط نهضة أمةٍ ما بقدرتها على الاتصال بالأمم الأخرى والاستفادة من إنجازاتها المادية والفكرية. فمن المعلوم أن اتصال العرب بالشعوب الأخرى- كالفرس واليونان والأسبان وغيرهم-، لاسيما في العصر العباسي، كان من أهم عوامل ازدهار الحضارة العربية الاسلامية في ذلك الحين. ومن المسلم به أيضا أن الاتصال بالأمم الأخرى يرتكز أساساً على مدى إتقان اللغات الأجنبية والقدرة على الترجمة منها. ففي فترة الخلافة العباسية برز عدد كبير من أصحاب اللسانين الذين قاموا بدور كبير في تطوير عملية الترجمة من وإلى اللغة العربية، وقد قام الخليفة المأمون بتنظيم تلك العملية. كما أن تأسيس محمد علي باشا لمدرسة الألسن ودعمه للنهوض بحركة الترجمة في القرن التاسع عشر كانا من أهم عوامل النهضة العربية الحديثة. و تسعى مؤسسات التربية والتعليم في مختلف أقطار العالم إلى إدخال تدريس لغة أجنبية واحدة على الأقل في مناهج التعليم من المرحلة الابتدائية، بل أن كثيراً من الدول – ومنها سلطنة عمان- قد أدخلت تدريس اللغة الأجنبية ضمن مواد المستوى الأول من مرحلة التعليم الأساسي وذلك إدراكاً منها لأهمية دور اللغات الأجنبية في التنمية البشرية والمادية.
وكما هو الحال في مختلف ميادين المعرفة، شهدت مناهج اللغات الأجنبية وطرق تدريسها تطورات كبيرة تهدف أساساً الى تيسير عملية تعلمها وتعليمها وجعلها أكثر التصاقاً بالمتطلبات العملية والعلمية للدارس. فبعد أن كان تعليم اللغة الأجنبية يعتمد بشكل كبير على الترجمة وتلقين القواعد، ظهرت في النصف الثاني من القرن العشرين مناهج تركز على الأبعاد التواصلية والاجتماعية والثقافية/الحضارية للغات الأجنبية، وأصبح معظم اللغويين يربطون بين دراسة اللغة ودراسة ثقافة الشعوب التي تستخدم تلك اللغة، “فدارس لغة أجنبية ما لابد له، إن كان يرغب في إتقانها جيداً، من التعرف على حضارة المجتمع الذي يتكلم أفراده تلك اللغة تعرفاً كافياً يعصمه من الوقوع في زلل بالغ الخطورة. وكثيراً ما يقال إن تعلم لغة أجنبية هو تعلم حضارة أصحاب تلك اللغة”. 1 ومن ناحية أخرى، أدى ظهور النظام العالمي الجديد ومخاطر هيمنة الثقافة الامريكية التي تنطوي عليها العولمة وأطروحات هنتجتون حول صراع الحضارات الى ردود فعل من قبل معظم دول العالم الثالث وكذلك بعض الدول المتقدمة التي أخذت تسعى الى وضع استراتيجيات محددة لحماية ثقافاتها الوطنية وذلك بوسائل مختلفة من بينها توجيه القائمين على وضع المناهج الدراسية إلى ضرورة ترسيخ قيم الانتماء والهوية لدى التلاميذ والطلبة في مختلف مستويات التعليم وفي شتىّ التخصصات بما في ذلك اللغات الأجنبية.
في هذه الدراسة المتواضعة، سنحاول أن نبين، في الجزء الأول، المستوى الفعلي لاتصال دارس اللغة الفرنسية في كلية الآداب جامعة عدن بالثقافة الفرنسية. وبعد أن نتناول، في الجزء الثاني، مدى إدراك الطالب في كلية الآداب لقيم انتمائه وهويته، سنقوم، في الجزء الأخير، بدراسة مدى تأثير دراسة الثقافة الفرنسية في إطار دراسة اللغة الفرنسية على قيم الانتماء والهوية لدى الطالب.
اولاً: الاتصال بثقافة الآخر في إطار دراسة اللغة الأجنبية:
يجمع اللغويون اليوم أن تعلم مفردات لغةٍ ما ونحوها وتراكيبها لا يمكّن الدّارس من التواصل بهذه اللغة. فلكي تصبح لغة الآخر أداة للتواصل بين الأفراد ينبغي أن يرفد تدريسها بتعليم المقدرة على الاتصال بثقافة الآخر، اي بدراسة ثقافته. ومن الملاحظ أن اللغويين، في إطار الدراسات الخاصة بطرق تعليم اللغات الأجنبية، يعمدون إلى خلق مضاهاة تامة بين مفهوم الثقافة ومفهوم الحضارة الذي، في رأينا، يتميز عن الأول باحتوائه على أبعاد ماضوية تبرز بوضوح في ثنايا اللغة.
في إطار اللغة الأجنبية، يتجاوز العنصر الثقافي/الحضاري مجموعة المعلومات التاريخية والجغرافية والدينية والسياحية الخاصة ببلد ما. فالمعارف الثقافية المرجعية اللازمة لفهم خطاب بلغة ما تشمل أيضاً مجموعة الممارسات الاجتماعية المنظمة لحياة جماعة من الناس في مكان ما وزمان ما، بما في ذلك العلاقات العائلية والمهنية والرسمية.. والعلاقة مع الروح والجسد والأشياء وكذلك مجموعة النصوص التي تتناول تلك الممارسات أو تصفها.
وإذا كان من المفرغ منه وجود علاقة متينة بين دراسة اللغة الأجنبية ودراسة ثقافة مستخدمي تلك اللغة، فما يزال هناك جدل كبير حول كيفية تدريس ثقافة الآخر في إطار تدريس لغته. ففي المناهج التقليدية القديمة، ولاسيما الخاص منها بالمستويين الأول والثاني، يتم التركيز على تلقين التراكيب والمهارات اللغوية الأساسية. ومع ذلك فقد تنبّه بعض واضعي مناهج تدريس اللغات للأجانب، خلال الحرب العالمية الثانية، إلى ضرورة ربط تدريس اللغة بدراسة ثقافة الشعب الذي يستخدمها.
فيما يخص اللغة الفرنسية، قام ج. موجه، في سنة 1953م، بوضع منهج لتدريسها للأجانب بعنوان (دروس في اللغة والحضارة الفرنسية). وعلى الرغم من طابعه التقليدي وسلبياته العديدة، تبنت بعض دول المشرق العربي استخدام هذا المنهج – الذي حظي على تقدير الأكاديمية الفرنسية- حتى منتصف السبعينات من القرن العشرين عندما اصبح العنصر الثقافي مكوناً أساسياً في معظم مناهج تدريس اللغة الفرنسية للأجانب التي بسبب تركيزها على تدريس اللغة كأداة للتواصل، صار يطلق عليها:(المناهج التواصلية). وقد دفع ذلك بعض المؤلفين إلى تقديم مستويات ولهجات اجتماعية مختلفة من اللغة الفرنسية في نفس المنهج، كما هو الحال مثلاً في:Archipel .
أما منذ مطلع الثمانينات فقد أصبح من اللازم أن يقوم واضع منهج تعليم اللغة الفرنسية للأجانب بدمج العناصر الثقافية مع بقية المكونات الأخرى للمنهج، وذلك من الدرس الأولى. ويمكننا ان نلمس ذلك من خلال قراءة محتويات منهج:Nouveau Sans Frontieres1 الذي يتم تدريسه في المستوى الأول من قسم اللغة الفرنسية، كلية الآداب- جامعة عدن.
وبالإضافة إلى وجود هذه المساحة المخصصة لتدريس “الحضارة” في كل وحدة دراسية في مناهج تدريس اللغة الفرنسية للأجانب، اعتاد واضعو تلك المناهج على استخدام النصوص الأدبية كوسيلة تمكنهم من الجمع بين تدريس العناصر اللغوية والعناصر الثقافية المدعمة بالبعد الجمالي الذي تشتهر به اللغة الفرنسية، وذلك انطلاقاً من مقولة الشاعر الفرنسي الكبير فيكتور هيجو بأن “الحضارة هي الأدب”، وكذلك سيمون دي بوفوار التي ترى”أننا لانكتشف البلاد الأخرى إلا عبر أدبها”.
إذا كانت العناصر الثقافية المدمجة في مناهج تعليم اللغة الأجنبية والنصوص الأدبية يمكن أن توفر للدارس المعلومات “الثقافية” اللازمة لفك شفرة التواصل اللغوي في المستويين الأول والثاني ضمن دورات اللغة الأجنبية للمبتدئين، ففي إطار المساقات الجامعية التخصصية (وبالذات بكلاريوس آداب) لا يمكن الاكتفاء بالتوأمة في نفس الكتاب بين العناصر اللغوية والعناصر الثقافية على مدى السنوات الدراسية الأربع. لهذا يضطر واضعو الخطط الدراسية إلى تكريس بعض المواد لتدريس العناصر الثقافية/الحضارية التي يوجد لها اليوم العشرات من الكتب المتخصصة في مختلف اللغات. وفي جامعة دمشق أطلق على تلك المواد، التي يتم التركيز فيها على المعلومات الجغرافية والتاريخية: “تاريخ الفكر والحضارة”. أما في قسم اللغة الفرنسية –كلية الآداب- جامعة عدن، فقد أختزل اسم المادة إلى”حضارة”، ويتم استنهاجها في المستوى الثاني، لمدة أربع ساعات أسبوعيا، وفي المستوى الثالث لمدة ساعتين أسبوعياً. في إطار هذه المادة، بالإضافة إلى الجوانب التاريخية والجغرافية، يتم تدريس وظائف المؤسسات الثقافية والتعليمية والسياسية والاجتماعية في فرنسا. وفي الغالب، يضطر مدرس هذه المادة لاستخدام عدة كتب للبحث فيها عن مختلف المفردات المقرر استنهاجها.
تكمن إحدى أهم الصعوبات التي تواجه دارس اللغة الفرنسية في عدن العربية الإسلامية “الانجلوفونية” في المسافة الحضارية التي تفصله من الشعوب التي تتحدث اللغة الفرنسية وعلى رأسها الشعب الفرنسي الذي ينتمي إلى أوروبا الغربية الكاثوليكية والمتقدمة صناعياً وتكنولوجياً.
ومع ذلك تبرز نتائج طلبة قسم اللغة الفرنسية خلال السنوات الخمس الماضية أن المناهج والوسائل التعليمية الحديثة والمساحة الزمنية المخصصة لمادة “الحضارة”، التي تدرس على مدى أربعة فصول دراسية، وكذلك الدور المهم الذي يقوم به المركز الثقافي الفرنسي الذي أعيد أخيراً افتتاحه في عدن بدعم كبير من جامعة عدن، أن الطالب الملتحق بقسم اللغة الفرنسية –كلية الآداب- يتزود بقدر لا باس به من المعلومات الثقافية حول فرنسا. ومن خلال مقارنة الدرجات التي يتحصل عليها الطالب في مادة الـ”حضارة”، التي يمكن تصنيفها ضمن المساقات المعرفية، بالدرجات التي يتحصل عليها في مساقات المهارات اللغوية، يتبين لنا أن الطالب في عدن يستوعب بشكل أسرع العناصر الثقافية التي تقدم إليه مقارنة بالمهارات اللغوية التي يعاني الطالب من بعض القصور فيها وذلك بسبب محدودية فرص استخدام اللغة الفرنسية في عدن واليمن بشكل عام. كما أن تواصلنا المستمر مع طلبة القسم، بمن فيهم الخريجين، يجعلنا نجزم أن طلبة قسم اللغة الفرنسية في كلية الآداب هم من بين اليمنيين القلائل الذين تمكنوا من الاتصال بالثقافة الفرنسية.
في الجزء الأخير من هذه الدراسة، سنحاول أن نكشف عن مدى تأثير هذا الاتصال بالثقافة الفرنسية الذي يمارسه الطالب في إطار دراسته للغة الفرنسية على قيم انتمائه وهويته العربية الإسلامية.
ثانياً: مدى إدراك الطلبة لقيم الانتماء والهوية:
في بداية هذا الجزء من دراستنا، نذكّر أننا لا نسعى للقيام بدراسة سوسيولوجية معمقة حول الانتماء، بل إلى محاولة للكشف عن مدى تأثير الاتصال بثقافة الآخر في إطار دراسة لغته على قيم الانتماء والهوية لدى الدّارس.
ولكي نتمكن من ذلك رأينا أنه ينبغي علينا أن نعرّف أولاً مدى إدراك الدّارس لقيم انتمائه وهويته. وبما أنه لا توجد لدينا مراجع حول هذا الموضوع أو أبحاث تبين لنا كيف يفهم الطلبة في كلية الآداب مفهومي الانتماء والهوية، فقد اضطررنا أن نضع استبياناً مزدوجاً قمنا بتوزيع الشق الأول منه، الذي يحتوي على السؤالين الآتيين:
1- كيف تفهم الانتماء ؟
2- ما هي، في رأيك، المكونات الأساسية لهويتك؟، على سبعين طالباً وطالبة من مختلف أقسام كلية الآداب، أعيدت لنا منهم تسع وأربعون إجابة. أما الشق الثاني فقد وزعناه على 35 طالباً وطالبة من قسم اللغة الفرنسية وأعيدت لنا 25 إجابة. ويحتوي هذا الشق على الأسئلة الآتية:
3- هل يمكن اليوم دراسة لغة أجنبية دون دراسة ثقافة الشعب التي تعد تلك اللغة لغته الأم؟
4- هل تعد دراسة ثقافة الآخر في إطار دراسة لغته انفتاحاً أو اتصالاً بالآخر؟
5- هل يؤثر ذلك الانفتاح أو الاتصال سلبياً أو إيجابياً على قيم انتماء الطالب لحضارته وثقافته الوطنية وكيف يمكنه تجاوز السلبيات إن وجدت ؟
قبل أن نستعرض مختلف الانتماءات التي برزت في الإجابات التي تحصلنا عليها، سنورد أولاً بعض تعريفات الانتماء كما جاءت في بعض الإجابات، والتي تساعدنا أيضاً على إبراز الكيفية التي يتم من خلالها تجسيد الانتماء. وقد لاحظنا أن هذا التجسيد يتدرج من مجرد التطابق في المشاعر بين عدد من الأفراد (في 7 إجابات) إلى الرغبة في التعبير عن مختلف أشكال الإخلاص والولاء كالاستعداد للتضحية في سبيل ما تنتمي إليه والدفاع عنه (15 إجابة).
فإذا كان الانتماء يعرف، في الاستمارة رقم 22 مثلاً، بأنه (كم من المشاعر والأحاسيس المتطابقة بين عدد من الأفراد أو الجماعات في مكان ما وزمان ما)، فهو يصبح في 15 استمارة أخرى رديفاً للولاء ولاندماج الفرد في مجموعة عريضة بهدف إيجاد قاعدة “للدفاع” المشترك. هذا ما نجده مثلاً في الاستمارة رقم 23 التي تعرف الانتماء بأنه “العودة الى أبعد حيز للـ”نحن” تلك التي تسبق الأنا خوفا من تضارب المصالح مع من لا ينتمون إلينا، أو على الأقل دفاعا عن الذات الجماعية إذا ما بدت مهددة بالضرر أو الاضطهاد”. ونجد تعريفا مشابها وأكثر تفصيلا للانتماء في الاستمارة رقم 39 التي نقرأ فيها: “الانتماء هو انتساب الشخص إلى الأسرة أو القبيلة أو الوطن. والانتماء هو الرابطة القوية بين الفرد وأقرب الناس إليه. ويعبر الفرد عن انتمائه من خلال الحفاظ على وحدة الأسرة وتماسكها وحمايتها وعدم التفريط فيها وصونها من أي مكروه. وتجمع رابطة الدم والنسب بين أفراد القبيلة التي، مقابل حمايتها للفرد يقوم الفرد بالدفاع عنها ونصرتها ضد أعدائها”.
وفي عدد محدود جدا من الإجابات (3 فقط) يتجسد الانتماء من خلال الجمع بين البعد الشعوري وبين الرغبة في (المشاركة الفعالة).. كما هو الحال في الاستمارة رقم 36 التي تعرف الانتماء بأنه (الشعور بالتقارب بين الأفراد في مجموعة ما، وهو الإحساس والشعور بالمسؤولية وكذلك رغبة هؤلاء الأفراد في الدفاع عن مجتمعهم ووطنهم والمشاركة الفعالة في بنائه).
وعلى الرغم من ندرة بروز الحرية الفردية كمكون أساسي للهوية في الإجابات التي تحصلنا عليها، فقد احتوى بعض تعريفات الانتماء على ما يمكن أن يكون نقيضا للانتماء وتأكيدا على حرية الفرد واستقلاليته. ففي الاستمارة رقم11، يعرف الانتماء بأنه “ما يربط الفرد بالوطن أو الأسرة أو بحزب ما، ولكن بشرط أن ينبع هذا الانتماء من داخل الفرد وأن يكون لديه القدرة على مواجهة الغير وأن يفرض شخصيته المستقلة وألا يتأثر بأي سلطة أو حزب”. وكذلك في الاستمارة رقم 44، نجد أن “الانتماء هو الالتصاق بالمكان، كالوطن أو الكلية، أو مجموعة ما –كالأسرة- لدرجة أن نكون جزءا لا يتجزأ منها ونستطيع أن نؤثر فيها ونتأثر بها وفي الوقت ذاته يجب أن نحافظ على شخصيتنا واستقلاليتنا حتى داخل الانتماء نفسه”.
وبالإضافة إلى ذلك، تعكس المعطيات الواردة في الإجابات إدراك الطلبة والطالبات لتعددية الانتماءات حيث حرص معظمهم (35 من بين 49) على تضمين إجاباتهم أكثر من انتماء واحد. وإذا كان 14 منهم قد اكتفوا بتقديم تعريف عام للانتماء دون إيراد أمثلة، فقد قام معظمهم باقتراح تمييزات ثنائية ذكية لبعض أنواع الانتماءات. في الاستمارة رقم 31، مثلا، نجد الإجابة الآتية: (يفهم الانتماء على نمطين؛ أولا: الانتماء الاجتماعي: الأب والعائلة، والعشيرة ويلحق بهذا النمط الانتماء المكاني في صورته الواسعة. ثانيا: الانتماء الثقافي، ويقصد به الانتماء إلى الأطر ذات الدلالات الفكرية والثقافية، كالمؤسسة الأكاديمية والاتحادات والمنظمات الثقافية والفكرية ويتصل بهذا الانتماء ما يسمى بالانتماء الحزبي في بعده الفكري).
أما في الاستمارة رقم 32، فيتم التمييز بين الانتماءات (الموروثة) والانتماءات الاختيارية: (أ- توجد انتماءات تتم باختيار وقرار فردي واعي وبحرية تامة ومسؤولية كالانتماء إلى حزب أو جمعية أو ناد أو مؤسسة. ب- يولد الإنسان منتميا إلى جنس وأبوين ووطن وأمه ولغة ومذهب ودين. ويمكن أن يغير الإنسان انتماءه إلى الوطن والأمة والمذهب والدين لكنه لا يستطيع أن يغير انتماءه العرقي أو العائلي).
لقد حرصنا، عند وضعنا للـ”استبيان” على عدم ذكر أي انتماء بعينة وذلك لكي لا نوجه الطالب – بشكل غير مباشر من خلال التذكير- إلى هذا الانتماء أو ذاك، وفضلنا أن نكتفي بما ورد من انتماءات في الإجابات المعادة فقط. ومن كل ذلك تبين لنا إدراك الطلبة لأربعة عشر انتماء مرتبة وفقا لعدد الاستمارات التي تذكرها، على النحو الآتي:
الانتماء إلى الـ/أرض الوطن في 29 استمارة.
الانتماء إلى الأسرة/العائلة في 27 استمارة.
الانتماء إلى القبيلة/ العشيرة في 17 استمارة.
الانتماء إلى الدين/الإسلام/الأمة الإسلامية في 14 استمارة.
الانتماء إلى الحزب (الانتماء السياسي) في 13 استمارة.
الانتماء إلى مجتمع في 11 استمارة.
الانتماء إلى الوطن العربي (الأمة العربية) في 11 استمارة.
الانتماء إلى المنطقة (الاقليم) في 10 استمارات.
الانتماء إلى العمل/الجامعة/الكلية في 8 استمارات.
10. الانتماء إلى الإنسانية في 6 استمارات.
11. الانتماء إلى النادي/الجمعية في استمارتين.
12. الانتماء إلى جنس (الانتماء العرقي) في استمارة واحدة.
13. الانتماء إلى طائفة في استمارة واحدة.
14. الانتماء إلى كوكب الأرض في استمارة واحدة.
وفيما يتعلق بالمكونات الأساسية للهوية، فقد ورد في الاستمارات المعادة لنا 13 عنصراً مرتبة حسب عدد المرات التي تذكر فيها، على النحو الآتي:
1. الدين/الإسلام 23 مرة.
2. اللغة 18 مرة.
3. الثقافة/الحضارة/التاريخ 17 مرة.
4. الأرض/الوطن 17 مرة.
5. العادات والتقاليد الاجتماعية 11 مرة.
6. الأسرة/المنزل 9 مرات.
7. الوطن العربي/القومية 8 مرات.
8. القيم الإنسانية 5 مرات.
9. المرؤة، الكرم، الشهامة 5 مرات.
10. المركز/المهنة/الخبرة 5 مرات.
11. الجنسية 4 مرات.
12. الحرية/السيادة مرتان.
13. المنطقة مرة واحدة.
من خلال قراءتنا لنتائج الاستبيان يتضح لنا مدى التصاق الطالب في كلية الآداب بتربة وطنه وعائلته ودينه الإسلامي وعروبته. واستطعنا كذلك أن نلمس نوعا من التجانس بين قيم الانتماء والمكونات الأساسية للهوية لدى الطلبة التي يأتي في مقدمتها الدين الإسلامي الحنيف، ثم اللغة العربية والثقافة/الحضارة والتاريخ. في الجزء التالي من هذه الدراسة سنحاول أن نرى كيف يساعد ذلك الالتصاق وهذا التجانس على تجنيب الطالب بعض التأثيرات السلبية التي يمكن أن تبرز في سياق دراسته لثقافة الآخر.
ثالثا: تأثير دراسة ثقافة الآخر في قيم الانتماء والهوية لدى الطالب:
في مقدمة هذه الدراسة أشرنا إلى أن التواصل والتفاعل بين الأمم بهدف الاستفادة من المنجزات الحضارية لبعضها البعض يعدان من المسلمات ومن ثوابت التطور عند مختلف الأمم. وإذا كانت بعض الشعوب قد حاولت، في الماضي، ألا تقترب من الآخر إلا نادراً وبحذر شديد فقد كان ذلك بسبب قراءتها لبعض معطيات التاريخ التي يبرز فيها الآخر كغاز طامع أو مستعمر محتل.
أما في هذا الجزء من دراستنا فسنحصر البحث في محاولة الكشف عن مدى تأثير دراسة ثقافة الآخر في قيم الانتماء والهوية لدى الطالب. من المعلوم أن الطالب يكتسب معظم مكونات هويته – كما هو الحال بالنسبة لانتمائه- بحكم مولده ونشأته وتربيته وتعليمه والبيئة المحيطة به. وبعكس ما كان يحدث في الماضي عندما كان معظم الناس يولدون ويعيشون ويموتون في قراهم أو مدنهم دون أن تتاح لهم فرصة اكتشاف الآخر، فاليوم، بفضل وسائل الاتصال والإعلام المتعددة والمتطورة، أصبح بمقدور معظم الأفراد التعرف على أناس آخرين يختلفون عنهم. ولاشك أن ذلك التعرف، وإن كان محدودا، يساعد هؤلاء الأفراد على اكتشاف بعض مكونات هويتهم من خلال إدراكهم لاختلافهم وتميزهم عن أولئك الآخرين.
وعلى الرغم من قناعتنا أن دراسة ثقافة الآخر تنطوي بالضرورة على قدر كبير من الاتصال بالآخر، فقد سعينا للتأكد من ذلك في الشق الثاني من الاستبيان الذي وزعناه على طلبة قسم اللغة الفرنسية فقط. وقد عدّ 76% منهم دراستهم للغة الفرنسية اتصالا بالثقافة الفرنسية. أما بالنسبة للسؤال الأخير من الاستبيان (هل يؤثر ذلك الاتصال سلبيا أو إيجابيا في قيم انتماء الدارس إلى حضارته وثقا فتة الوطنية …؟) فقد كانت الإجابات على النحو لتالي:
أ – يؤثر إيجابيا 64% (16 استمارة من 25 استمارة مستعادة)
ب- يؤثر إيجابيا و سلبيا 28% 7 استمارات
ج- يؤثر سلبيا 4% استمارة واحدة
د- لا يؤثر 4% استمارة واحدة
مقارنة بالتعرف السطحي والعفوي بالآخر، تشكل دراسة ثقافة الآخر في إطار الدراسة التخصصية للغته اكتشافاً فعليا لقيم هويته، وذلك بعيداً عن كافة أنواع الأحكام المسبقة والمؤدلجة (السلبي منها والإيجابي) وعن حالات الانبهار السرابي التي تلازم نظرة البعض للغرب ولفرنسا بالذات. ويمكن أن نشير هنا إلى أن ارتفاع نسبة التسرب في قسم اللغة الفرنسية لا يعود بالضرورة إلى استصعاب اللغة الفرنسية بل إلى زوال ذلك الانبهار الذي ربما كان الدافع الوحيد لالتحاق بعض الطلبة بالقسم.
ومن ناحية أخرى، عبر اكتشاف الآخر من خلال دراسة ثقافته، يستطيع الطالب أن يكتشف ذاته ويدرك بشكل جيد مكونات هويته. فمن وجهة نظر فلسفية/سوسيولوجية يعد الاتصال بالآخر/المختلف عاملا أساسيا في عملية إدراك الإنسان لمكونات هويته. فالفيلسوف الوجودي الفرنسي جان بول سارتر يرى أن “الهوية هي الآخرون”. وكذلك بسام بركة الذي يكتب في افتتاحية “مجلة الفكر العربي” : ” لابد من التأكيد على أن طبيعة التواصل بين أفراد مجتمع معين وبين هذا المجتمع والمجتمعات الأخرى هي التي تحدد هويته. فالهوية هي ما وراء الهوية. فكينونتي ليست فقط في ذاتي، وهي لم تعد في الماضي الذي أحمل في نفسي، بل في القوة التي تدفعني نحو الآخر والتي أحملها في اتجاه الآخرين، أي أنها تقع في المسافة التي أحاول جاهداً أن أعبرها لأصل إلى الآخر والتواصل معه”(2).
أما من وجهة نظر سوسيو- لغوية، فمن الثابت أن رؤية الطالب للكون بشكل عام تتغير جذريا عند تعمقه في دراسة ثقافة الآخر في إطار دراسته للغة الأجنبية. ففي بداية دراسة ثقافة الآخر لا يرى الطالب الآخر وثقافته إلا عبر ذاته وثقافته الخاصة به. فهو، في البداية، يقارب مثلا بين الكنيسة كمكان للعبادة والمسجد، وبين باريس كعاصمة وصنعاء. وفي هذه المرحلة- الأولى – من دراسته، ولكي يستوعب بشكل سريع بعض العناصر اللغوية والثقافية الخاصة بالآخر، يلجا الطالب إلى مقارنتها بالعناصر المضاهية لها في لغته وثقافته.
وفي المرحلة الثانية، التي تتزامن عادة مع بداية المستوى الثالث، يرى علماء اللغة أن الطالب يشرع في النظر إلى الكون وإلى ذاته نفسها عبر(مرآة) الآخر. وخلال بحثه عن أوجه الشبه والاختلاف بينه وبين الآخر، يكتشف الطالب كثيراً من القواسم المشتركة بين ثقافته وثقافة الآخر وقد يتولد لديه ميل ( للمثاقفة) أي للرغبة في تطعيم ثقافته بعناصر من ثقافة الآخر و ذلك بهدف اثرائها و تطويرها.
وبالإضافة الى تمكين الطالب من اكتشاف هويته من خلال النظر إلى الآخر، تساعد دراسة اللغة والثقافة والآداب الأجنبية الطالب على اكتشاف ذاته من خلال قراءته للصورة التي يكونها عنه الآخر في أدبه وكتاباته المختلفة. ويرى بعض العلماء أن هذه الصورة التي يكونها عنا الآخر يفترض أن تكون في بعض الأحيان أكثر دقة وموضوعية من الصورة التي نرسمها نحن لأنفسنا. في كتاب “جماليات الابداع اللغوي”، يرى ميخائيل باختين أن الآخر فقط، بفضل موقعه في خارج إطار ثقافتنا، يمكن أن يرانا على حقيقتنا وفي كليتنا. ويضرب مثلا على ذلك عجزنا عن رؤية هيئتنا الخارجية بأعيننا، حيث يقول:” لا توجد مرآة أو صورة شمسية يمكن أن تساعد المرء على رؤية شكله الخارجي من كل الجوانب وفي الوقت نفسه. فهذا الشكل لا يمكن أن يراه ويفهمه إلا انسان آخر وذلك لكونه آخر ويقع في خارجنا”(3).
وفي الحقيقة، لا تدخل دراسة النصوص التي تتناول صورة العربي (أو اليمني على وجه التحديد) في كتابات الفرنسيين في إطار الخطة الدراسية لمساق بكالوريوس اللغة الفرنسية. ونرى أنه يمكن استيعاب دراسة النصوص الاستشراقية التي تتناول صورة العربي في إطار مادة الأدب المقارن التي ينبغي أن تدرج ضمن مواد الدبلوم العالي او الماجستير في التخصصات اللغوية.
أما فيما يتعلق بالتأثيرات السلبية لدراسة ثقافة الآخر، فأهمها يكمن في تحول المقارنة بين ثقافة الطالب وثقافة الآخر إلى مفاضلة أو أن يتم الربط بين التطور الصناعي والتكنولوجي وقيم الهوية والتطور الثقافي. فالطالب في قسم اللغة الفرنسية يلمس دون شك الضعف الذي تعاني منه الأمة العربية اليوم في كثير من الجوانب. ولولا إدراكه الشديد لقيم انتمائه وهويته يمكن إن نخشى تحول المثاقفة لديه إلى ازدواجية ثقافية تمهد لهيمنة ثقافة الآخر وإزالة الثقافة الوطنية تحت مبرر التحديث والتطور مثلما زعم هنتجتون الذي يرى أنه “يتعين على المجتمعات غير الغربية، إذا أرادت أن تتحدث، إن تتخلى عن ثقافاتها الخاصة وتتبنى عناصر الثقافة الغربية الجوهرية “(4).
ويمكن التصدي لهذا الاحتمال من خلال إضافة مادة “الثقافة العامة” إلى مواد المستوى الأول في قسم اللغة الفرنسية وبقية أقسام اللغات الاجنبية، وتضمين هذه المادة مفردات ترسخ لدى الطالب قيم ثقافته الوطنية العربية والإسلامية وتساعده على التمييز بين تلك القيم والتقدم التكنولوجي، وكذلك على الإلمام بمختلف آليات الخطاب الاستشراقي التقليدي والحديث. ونرى كذلك أنه يجب الإسراع في إعادة النظر في محتوى مادة اللغة العربية التي تدرس في أقسام كلية الآداب على مدى أربعة فصول، وكذلك في طريقة أدائها بهدف التأكد من أن دارس اللغة الأجنبية يتقن جيداً لغته الأم. أما حالياً، فيلاحظ، من خلال مواد الترجمة، أن مستوى الطلبة في اللغة العربية ضعيف جداً على الرغم من حصولهم على درجات مرتفعة فيها.
إن تقديمنا لهذه “المحاذير” المحدودة جداً التي يمكن أن تنطوي عليها دراسة ثقافة الآخر لا يعني مطلقاً اننا ندعو إلى الحد من الاتصال بالآخر وثقافته. فنحن-كغيرنا- ندرك أن الانعزال والانكفاء على الذات، بحجة حماية هويتنا الثقافية، ليسا الاّ مجرد وسيلتين لمراكمة المزيد من الضعف والتخلف.
إضافة إلى ذلك، لا شك أن التجانس الديني واللغوي والثقافي ورسوخ مشاعر الولاء للعائلة والوطن والعروبة والإسلام التي عبرت عنها نتائج الاستبيان الذي قمنا به يؤهلان دارس اللغة الأجنبية في كلية الآداب للاتصال بثقافة الآخر ويضعانه بمنأى من خطر الوقوع في الازدواجية الثقافية التي يمكن أن تنتج عن دراسة ثقافة الآخر، بل ونرى أن هذا الطالب، بفضل دراسته للآخر وثقافته، يمكن أن يسهم بشكل فعال في تطوير مجتمعه ووطنه. فقد عدّ سهيل فرح، أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية، الاتصال الثقافي بالآخر ضرورياً للخروج من “حالة الضعف الحضاري التي نعيشها على مستوى النظرية وديناميكية الممارسة”. ويضيف: “لابد من الإقرار بأنه لا يمكن أن يتجدد الوعي الحضاري لدينا مالم نفهم بالعمق قوة الآخر وتجدده. ولفهم الآخر لابد من التواصل الخلاق معه”.¬(5)
وبناءً على ذلك كله نعتقد أنه لا يوجد أي تضارب بين ضرورة دراسة ثقافة الآخر في إطار دراسة لغته وضرورة ترسيخ قيم الانتماء والهوية لدى الطالب.
أ- الهوامش:
1- د. نايف خرما ود. علي صحاح: اللغات الأجنبية: تعليمها وتعلمها، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، 1988م، ص117.
2- د.بسام بركه: (التواصل والعلاقة بين العنف والهوية)، في مجلة “الفكر العربي”، العدد 96، سنة 1999م، ص4.
3- M.Bakhtine: Esthetique de la Creation verbale, Gallimard, Paris, 1984, P.348.
4- صامويل هنتجتون: (الغرب…) ترجمة فاضل جكتر، في مجلة “أوروبا والعرب)، العدد 166-167، مايو1997م، ص61.
5- د. سهيل فرح:( نقد النقد والتواصل مع الذات والآخر)، في مجلة “الفكر العربي”، العدد96، سنة1999م، ص116.
ب-المراجع العربية الأخرى:
د. ابراهيم محمد عبد الله:(التعليم والأمن في عصر العولمة)، في مجلة “المعرفة” وزارة المعارف السعودية، العدد 52، نوفمبر1999م.
بيار أشار: سوسيولوجيا اللغة، ترجمة د. عبد الوهاب تزو، منشورات عويدات، بيروت 1996م.
د. عزت السيد أحمد:(العولمة والغزو الثقافي)، في مجلة “الفكر العربي”، العدد96، سنة 1999م.
د. علي صبري فرغلي:(الهوية العربية وإزدواجية اللغة في عصر المعلومات)، في مجلة “الفكر العربي”، العدد96، سنة 1999م.
د. محمد عابد الجابري: مسألة الهوية..العروبة والإسلام..والغروب، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1995م.
د. محمود نديم:(نحو تعريف المقدرة على الاتصال الثقافي في إطار اللغات الأجنبية)، في مجلة “الفكر العربي”، العدد96، سنة 1999م.
د. منصور ابراهيم الحازمي:(الثقافة العربية بين الإيجابيات والسلبيات)، في مجلة “علامات في النقد”، الجزء 28، المجلد السابع 1998م.
ج- المراجع الأجنبية الأخرى:
Daniel COSTE : Vingt ans dans l’evolution de la didactique des langues; Credif 1994
– Amor Seoud : Pour une didactique de la litterature Credif 1997
Comments are Closed