موقع ثقافي تعليمي

لماذا أضاع الحضارم سنغافورة؟

طرق التجارة عند الحضارم قبل 130 عام أو لماذا أضاع الحضارم سنغافورة التي أسسوها؟

كان الحضارم أكثر تواجدا تجاريا من الصينيين سنغافورة. لكنهم طرقهم في التجارة ظلت جامدة ولم تتطور، ولم تحاول التكيف مع المتغيرات التي حصلت في الجزيرة. وقد ذكر الهولندي فان در بيرخ في كتابه (المستوطنات العربية في الأرخبيل الهندي 1886)، عددا من السلبيات التي أزالت الحضارم من واجهة التجارة في تلك الجزيرة بعد أن اعتمد عليهم المستعمر البريطاني لتأسيسها.

من أبرز تلك السلبيات:

-الانغلاق داخل الإطار التجاري العائلي حتى في حال انعدام العنصر الكفوء في العائلة.

-رفض التعامل مع المؤسسات المصرفية، والتعامل مع المال بطرق بدائية مما جعل المجتمع يصنفهم كمرابين.

-رفص استخدام نظم محاسبة حديثة، والاعتماد على دفتر (يومية) حتى في المؤسسات التجارية الكبيرة.

-رفض الاهتمام بالمظاهر والترويج لتوفير المال. والتعامل مع التجارة بصورة قروية ريفية حتى المدن الكبيرة.

-التركيز على الاستثمار في العقارات والأراضي. وهو الذي جعلهم يخسرون كثيرا من رؤوس أموالهم ليس فقط في سنغافورة لكن في مختلف أرجاء الأرخبيل الهندي.

وفيما يأتي ترجمة للفصل الثالث الذي كرسه فان در بيرخ لتقديم طرق التجارة عند الحضارم قبل 130 عام.

الفصل الثالث

مصادر دخل العرب الحضارم في الأرخبيل الهندي

من النادر ألا تقابل في الأرخبيل الهندي حضرميا لا يهتم بهذا الشكل أو ذاك بالتجارة. فالعرب يكونون مع الصينيين ما يسمى في لغة التجارة بـ “الوكلاء”، أي أنهم يشترون البضائع بالجملة من الشركات الأوروبية الكبيرة ويقومون بتصريفها أما عن طريق موزعين آخرين أو مباشرة إلى المستهلك. ويقوم الصينيون بنشاط تجاري أكبر من نشاط التجار العرب. ويبدو كذلك أن الصينيين يتميزون بروح تجارية أعلى من تلك الروح التي يتمتع بها العرب. ومن المؤكد أن الأحياء الصينية في المدن التي يتنافس فيها الصينيون والعرب تمتاز عادة بأبهة وحيوية لن نعثر عليها في الأحياء العربية. لهذا يقال إن الشركات الأوروبية تفضل عادة إقامة علاقات تجارية مع الصينيين أكثر من العرب. وهناك حالتان تشذان عن هذه القاعدة؛ ففي بالمبنج وبيكالونجان يسيطر العرب بشكل واسع على التجارة إلى درجة أن الحي الصيني كله تقريبا يكاد يخضع لسيطرتهم وذلك بفضل ضخامة رؤوس أموالهم. فالعرب هم الذين يوفرون للصينيين رأس المال أو البضائع التي يقومون بتوزيعها [بالتجزئة]. وبسبب ذلك تبدو الأحياء العربية في هاتين المدينتين أكثر حيوية وبهاء من الأحياء الصينية. وبلغني أيضا أن التجار العرب في سربايا  وبادانج يحظون، حتى وإن لم يكونوا أغنياء، بثقة الشركات الأوروبية أكثر من الصينيين.

ويمكن أن يتصور المرء أن العرب في الأرخبيل الهندي يتاجرون بدرجة رئيسة مع بلدان البحر الأحمر والخليج العربي. لكن حجم تجارتهم مع تلك البلدان متدن في الواقع. وفي مطلع القرن التاسع عشر كان لهم نشاط لا بأس به مع مينائي مسقط والمخا. أما في الوقت الحاضر [1886]، ففي ما عدا بعض الاستثناءات القليلة، تنحصر العمليات التجارية للعرب في إطار الأرخبيل الهندي نفسه وشبه جزيرة مالاكا. ويبدو أنه حتى جزر الفيليبين لا تقع في نطاق نشاط التجار العرب.

***

 وبشكل عام يستثمر العربي رأسمالا ضئيلا جدا في تجارته. وإذا جمع أحد العرب أموالا كبيرة من النادر أن يستخدمها كلها في تجارته. وهو لا يفتخر بتأسيس مؤسسة تجارية مشهورة كما يفعل الأوروبي. ونجد كذلك أن نصوص القانون الإسلامي (الشريعة) التي تشير إلى كثير من أنواع التجمعات التجارية لا تتعرض للشركات المساهمة والوضع الاجتماعي للبيوت التجارية بشكل عام. لهذا يشرف كل تاجر عربي على أعماله التجارية بنفسه ويوقع باسمه حتى إن كان له شركاء. وهذا الأسلوب الفردي في التجارة يتنافى مع السعي لتأسيس مؤسسة تجارية لها كيانها المستقل عن شخصية المساهمين. وهذا هو الإجراء الصحيح لتخليد اسم مؤسس الشركة.

ويفضل العرب استخدام الأموال التي يكسبونها من التجارة في الاستثمار العقاري. وقد يقومون بشراء العقارات بهدف تأجيرها. ففي أجزاء الأرخبيل الهندي الخاضعة مباشرة للحكومة الهولندية لا يملك السكان المحليين عادة إلا حقولهم التي ورثوها عن أجدادهم والتي لا يمكنهم أن يبيعوها إلا لواحد من أبناء جنسهم. وبناء على ذلك لا يحق للعرب في الأراضي الخاضعة للحكومة الهولندية الاستثمار رسميا في الزراعة. أما في مجال العقار فيقدر حجم استثمارهم في تلك الأراضي بأحد عشر مليونا فلوران تقريبا؛ منها مليونان ونصف في باتافيا، ومليون تقريبا في سمارانج، وثلاثة مليون في سربايا، ونصف مليون تقريبا في بالمبنج، وما يقارب المليونين في بونتانياك. وفي الأراضي الخاضعة للحكم البريطاني تقدر العقارات العربية بخمسة مليون. يمتلك أربعة مليون منها على الأقل عرب مقيمون في سنغافورة.

 ومع ذلك يهتم معظم العرب الذين يمتلكون العقارات بالتجارة ويقومون باستخدام جزء من رأسمالهم في تقديم القروض لأبناء جنسهم أو الصينيين أو السكان المحليين. ولم أتعرف على أي عربي قام باستثمار رأسماله في البورصة. وكانوا في الماضي يحبون شراء البواخر. لكن هذا النوع من الاستثمار لم يعد مكسبا بشكل عام. والعرب الذين لا يزالون يمتلكون سفنا سيسرهم أن يتمكنوا من التخلص منها بدون خسائر كبيرة.

وعلى الرغم من أن الشريعة الإسلامية قد حرمت الربا وعدّته من الكبائر فهو منتشر كثيرا بين العرب في الأرخبيل الهندي. وأعتقد أنه لا يوجد بين أصحاب رؤوس الأموال العرب من لا يمارس الربا من وقت لآخر بصفته نشاطا ثانويا. وليس هناك إلا عدد محدود من الأشخاص الذين يتخذون منه مهنتهم الوحيدة بشكل رسمي. أما الغالبية فيحاولون أن يقوموا بهذا النشاط بشكل خفي. ويصعب علينا أن نلخـّص هنا جميع التفاصيل المرتبطة بتلك العمليات والشروط التي تنظمها. لكن أهمها: الشراء مع منح البائع حق شراء ما باعه لك، والبيع بالدين وتقسيط الثمن لكن بسعر مبالغ فيه. ويتم تغطية تلك المعاملات بشروط أخرى ثانوية، كتوثيق المعاملة كتابيا أو إحضار ضمان شخصي أو مادي. وعادة ما تكون الشروط معقدة جدا إلى درجة أن المقترض المحلي لا يستطيع تقريبا أبدا الخلاص من أيدي الدائن، لاسيما إذا ما أخذنا في الاعتبار الإهمال الذي يشتهر به الجنس الملايوي في ما يتعلق بمسائل المال. وكل تنازل يقدمه الدائن لا يتم تعويضه حالا وبالمال بل بتعقيد شروط المعاملة التي هي في الأصل قاسية وباهظة التكاليف. وبالإضافة إلى ذلك ينبغي الإشارة إلى أن العرب، خلافا لتعاليم القرآن، دائنون لا يعرفون الشفقة ويعرفون كيف يستغلون نقاط الضعف في طباع السكان المحليين. أما الأوروبيون والصينيون فيعرفون في الغالب كيف يتخلصون من تلك العمليات التي تكلفهم مع ذلك خسائر فادحة.

و يختار المرابون العرب عادة زبائنهم المحليين من بين الذين لديهم قليل من المال كالزعماء والتجار. لكن هذا لا يمنعهم من التعامل مع السكان المحليين الفقراء الذين يدفعون لهم بالعمل أكثر مما يدفعه لهم الآخرون نقدا. ففي سنغافورة وضع أحد المولدين العرب الآلية الذكية الآتية في معاملاته: يأمر وكلاءه في مكة أن يدفعوا للحجاج الجاويين أو الملايويين المعدمين المال اللازم لعودتهم إلى بلادهم بفائدة تقدر بـ 60% سنويا. ويضمن الحجاج بعضهم بعضا ويعودون في مجموعات من عشرة إلى خمسة عشر شخصا. وبعد ذلك يقوم المولد بنقل الحجاج في سفنه البخارية، ويحجزهم بشكل جماعي وكأنهم عبيد إما في سنغافورة أو في جزيرة كـُـوكـُب رغم أنف السلطات البريطانية بحجة تمكينهم من العمل مقابل الديون المستحقة عليهم. ويزعم ذلك الشخص أن الديون تزيد سنويا بدلا من أن تنخفض بفضل العمل المنجز.

ولا أحتاج للإشارة إلى أن الدائنين العرب يتكبدون في بعض الأحيان خسائر بسبب وفاة المقترضين أو بسبب عدم مصداقيتهم التامة. وقيل لي أن مجموعة من عشرة عرب كان لديهم قليل من الثروة ويسكنون معا في مبنى في جاوه قد أفلسوا تماما نتيجة لمعاملاتهم المالية مع السكان المحليين. ومع ذلك فهذه ظاهرة نادرة. ويمكننا القول إن معظم المساكن الواقعة في ضواحي المدن ويمتلكها اليوم العرب قد آلت ملكيتها إليهم إما عن طريق شروط الرهن، أو الضمان، أو عن طريق البيع وإمكانية الشراء من قبل البائع.

ومن الأمور التي تبيّن مدى انتشار الربا العربي حقيقة أنه من النادر أن تزيد أرباح الاستثمارات المالية الموثقة التي يقوم بها الأوروبيون على نسبة 6% أو 7%، بينما يستطيع العربي الذي يقرض المال “بالأسبوع” أن يكسب ربحا يقدر بـ 25% أو 30%. والسبب في هذا الارتفاع المذهل للأرباح يكمن في أن أي أوروبي يحترم نفسه لن يقبل أن ينمي رأسماله بهذه الطريقة، لاسيما أنه لا يوجد هناك نص قانوني  يلزم المدينين بالوفاء في المهلة المحددة فضلا عن أنهم في الغالب أشخاص لا يستحقون الثقة. أو هكذا يبدون. أما العربي فمن النادر أن يشعر بالحاجة إلى وضع يده على أملاك غريمه أو وضعها في المزاد العلني. لكنه بالمقابل لا يكف عن الذهاب المستمر إليه لكي ينتزع منه أقساطا زهيدة. وربما يقنع، عوضا عن النقود، بأي قطعة ثمينة قد يساوي ثمنها ضعفي المبلغ المطلوب، بل إنه قد يقبل بعض الملابس التي يبيعها بواسطة أحد أصدقائه. وقد يرضى ببنت المدين إذا كانت جميلة واستدعى الأمر ذلك. كما أنه يحرص على مراقبة أوقات خروج غريمه ويتبعه حينما يمكن أن يستلم بعض النقود. ويعرف دائما أين يجده. لهذا لن يستطيع المستدين المماطل أن يبعد أمواله نهائيا عن الدائن العربي. فهذا سيعرف دائما أين يجدها. وبسبب كل ذلك ينبغي أن نسلم أن مثل هذه العمليات لا يمكن أن يقوم بها إلا أشخاص يعرفون تماما المجتمع المحلي، أو بالأحرى يعيشون في داخله.(1)

ولا تبدو الشروط التي يفرضها العرب لتقديم رؤوس الأموال بغرض تأسيس مؤسسات تجارية مشتركة (أي وكالات) قاسية، لاسيما حينما يكون الشريك المنفذ (أو الوكيل) من أبناء جنسهم. لكن حينما يكون الشريك صينيا أو محليا فشروط الشراكة تصبح في مستوى قسوة الاستدانة. وينبغي الإشارة كذلك إلى أن كثيرا من العرب لا يحبون الدخول في شراكة مع أشخاص من غير بني جنسهم.

وفي الغالب يتم الاتفاق على تأسيس مؤسسة تجارية مشتركة شفويا ويكون رأسمالها في معظم الأحيان ضئيلا. ويمكنك أن تجد أحد العرب الذي يوزع رأسماله المقدر بـ 100000 فلوران بين عشرين أو ثلاثين مؤسسة مشتركة. وفي هذه الحالة لن يكون شركاؤه التنفيذيين إلا عبارة عن باعة جوالين، أو أصحاب دكاكين صغيرة. ولم يحدث أبدا أن غامر أحد العرب بجميع رأسماله في مؤسسة مشتركة واحدة.

وقد سبق إن أشرت إلى أن ضآلة الرأسمال تعد أهم سلبيات التجارة العربية. وتصبح هذه السلبية أكثر خطورة حينما نرى أن الشركات الأوروبية تتساهل حينما تقدم قرضا إلى أحد الأشخاص الذين يرتدون العمائم.(2) وأعرف شخصيا بعض العرب الذين لا يملكون في الواقع فلسا واحدا ويشترون كل شهر ما يتجاوز قيمته 20000 فلوران من البضائع. وإذا ربحت تجارتهم سددوا ما عليهم من دين. إما إذا خسروا فهم يلجئون إلى طلب مهلة أو مهلتين للسداد آملين أن تتحسن الأسعار. وإذا لم يتحقق ذلك يحاولون أن يطيلوا مدة احتضارهم من خلال تسديد الديون الأكثر إلحاحا من أسعار البضائع التي اشتروها بديون أخرى. ولا يعني هذا سوى فتح ثغرة جديدة لسد فتحة قديمة. والإفلاس هو النهاية الحتمية.

وللإفلاس عند العرب أوجه عديدة ومميزة. وقد رأينا أن التجار في حضرموت ليس لديهم دفاتر منتظمة لتجارتهم. ومن المعروف أنهم يجهلون مسك دفاتر الوارد والصادر التي يستخدمها الأوروبيون. ومن ناحية أخرى من النادر أن يغادر التاجر الذي لديه بعض الثروة حضرموت. ولهذا تجد أن غالبية التجار العرب في الأرخبيل الهندي من القبائل والبرجوازية الصغيرة(3) أو من “السادة”، أي من بين الأشخاص الدخلاء تماما على التجارة. وبهذا يمكن أن نفسر عدم التزام التجار العرب ببنود قانون التجارة المتعلقة بالدفاتر. ففي باتافيا كلها لا أعتقد أن هناك خمسة أو ستة عرب لديهم دفاتر تتطابق مع القانون. وبما أنهم يدركون أن عليهم أن يقدموا دفاتر حساباتهم في حالة الإفلاس فهم يصنعونها صنعا حالما يلوح لهم الإفلاس وذلك  من خلال العودة إلى مذكراتهم. لكن من خلال تلك الدفاتر لا يمكن لأحد غير المفلس نفسه أن يعد حسابا ختاميا للمؤسسة المفلسة. وبما أن التاجر المفلس ليس بمقدوره في معظم الأحيان مسك الدفاتر بالطريقة الأوروبية فمن الصعب على المحاكم أن تنظر في تلك القضايا وإن تقرر إن كان هناك تزوير أو لا. ولهذا لا يمكن أن يكون هناك أثر للعقوبات التي ينص عليها القانون بشأن قضايا الإفلاس.

وفي الغالب تنتهي قضايا الإفلاس العربية بالتراضي. وعادة ما يرفض الدائنون تطبيق التصفية القانونية بواسطة الغرفة التجارية ويقبلون بالصلح الذي يضمنه واحد أو اثنان من مواطني المفلس. وهؤلاء لا يقدمون للمفلس هذه الخدمة إلا مقابل التزامه بتسليم جميع المبالغ المستحقة لمؤسسته إليهم، ومن ثم فهم يوظفونه لاسترداد تلك الديون وينجحون في النهاية في قبض مبالغ تزيد عن المبلغ الذي تم تسجيله في ورقة الصلح. وبما أن الضامنين قد ربحوا من خلال هذه العملية فهم يساعدون المفلس على استعادة نشاطه التجاري. ويحدث أن لا يضطر المفلس إلى إحضار ضامنا، وذلك حين يقوم أحد أصدقائه بشراء الديون المستحقة عليه من الأوروبيين مقابل تخفيض نسبة مئوية معينة. وبعد أن يصبح هذا “الصديق” هو الدائن الوحيد للمفلس يوظفه في تجميع الديون مقابل مرتب محدد مسبقا. وأعرف أحد الأغنياء العرب في باتافيا كوّن الجزء الأكبر من ثروته بواسطة هذا النوع من الصفقات التجارية.

ومن الأخطاء الجسيمة التي يرتكبها التجار الأوروبيون الاعتقاد أن المفلسين العرب يقومون عادة بتحويل جزء من أموالهم إلى حضرموت لإخفائها عن الدائنين المستحقين. ومن المعروف حقا أن معظم العرب الأغنياء يرسلون مساعدات مالية إلى عائلاتهم وبعض الجمعيات الخيرية في بلادهم، وصحيح أن إجمالي تلك المساعدات سيكون مبلغا ضخما، لكن هذا المبلغ لن يقترب حتى من بعيد من إجمالي المبالغ الكبيرة التي يضعها التجار الأوروبيون تحت تصرف التجار العرب الذين يعرفون جيدا الظروف المضطربة في بلادهم لكي يأتمنوا على أموالهم فيها. ويمكن أن يُقدِم أحد القبائل أو “السادة” على شراء بيت أو بيتين، أو مزرعة نخيل في حضرموت. لكن هذه الصفقات لا تكلف إلا مبلغا زهيدا ولن تضر بأي ثروة. ولا أعرف إلا عربيا واحدا أفلس وهو يملك بيوتا كبيرة في حضرموت، علما أنه قد قام بشراء تلك البيوت في فترة كانت تجارته فيها مزدهرة. ومع ذلك فقد تم بيع تلك البيوت وإحضار قيمتها بطلب من أحد مواطنيه الذي تقدم بدعوى ضده إلى قاضي سيؤن الذي اعترف هكذا بقانونية حكم أصدره قاض غير مسلم في محكمة ابتدائية في باتافيا.

وتعد باتافيا وسمرانج وسربايا وسنغافورة أكبر المراكز التجارية العربية في الأرخبيل الهندي. وفي هذه المدن الأربع يقوم العرب بممارسة تجارة الجملة وعن طريق الدين. وهم عادة يتاجرون ببضائع مستوردة لا تدخل ضمن نشاط الشركات الأوروبية، ويقومون بتوزيعها إما في دكاكينهم أو بواسطة الباعة العرب أو الصينيين أو المحليين. وفي الغالب لا يفتح كبار تجار الجملة العرب دكاكين للبيع بالتجزئة، أو على الأقل ليس في بيوتهم. أما العرب الذين نراهم يدخنون الغليون عند أبواب منازلهم أو في شرفاتها بغرض البيع فليسوا تجارا مهمين. وإذا أراد أحد كبار التجار العرب أن يفتح له دكانا للبيع بالتجزئة فهو يفعل ذلك عادة في مدينة أخرى ويتنازل عن إدارته لشخص ينيب عنه ويسمى “وكيل”. ومع ذلك يفضل معظم هؤلاء التجار توزيع بضائعهم أولا بأول عبر تجار ليس لديهم مصداقية لدى المستوردين الأوروبيين، وبواسطة الباعة الجوالين. وهذا ما يفسر عدم وجود أي أثر لتلك البضائع في بيوت كبار التجار العرب أو في مخازنهم في باتافيا. فالتاجر العربي في هذه المدينة يشتري البضاعة  ويبيعها في دكاكينه في بالمبنج أو شيريبون، أو يبعثها إلى وكلائه في المناطق الأخرى. ولا يحتفظ في بيته إلا بمكتب صغير. ولا يبقى في مخازنه إلا البضائع التي لم يستطع توزيعها في الحال.

وينبغي علينا كذلك النظر بتمعن في نظام الباعة الجوالين العرب. فالتاجر العربي قد يلجأ إلى بيع بضاعته بواسطة باعة جوالين يعملون لحسابه الخاص يحصلون على نسبة محددة من الربح: 2.5% أو 5%. وربما يسلم البضاعة للبائع الجوال الذي يدفع ثمن البضاعة المباعة ويرد الجزء المتبقي. ويمكن أن يكون البائع الجوال وكيلا أو شريكا فعليا لتاجر الجملة. وفي كل الأحوال يفضل التاجر الجوال التعامل مع الفئات الدنيا من السكان المحليين. وتتم عملية البيع بالتقسيط وبأسعار مبالغ فيها. لهذا فالربح كبير إذا كان الزبون صادقا وظل على قيد الحياة. وإذا حصل العكس – وهو ما يحدث في معظم الأحيان-   أفضل حل هو نسيان ما تبقى من الدين، لاسيما أن الإقساط المستلمة تساوي في الغالب القيمة الحقيقية للبضاعة. ويحق للمرء أن يستغرب من الكيفية التي يستطيع بها هؤلاء الباعة تذكر الكم الهائل من الديون المستحقة لهم. والأمر الذي يمكن أن يعقد هذه العملية هو أن الزبائن المحليين لا يحملون أسماء عائلية ولا ألقابا. كما أن بعضهم ليس لديهم مكان إقامة ثابت. ومع ذلك من النادر أن يخطئ البائع الجوال إلا إذا كان ذلك من مصلحته.  ولكي تستطيع أن تقدر أكثر الموهبة الطبيعية الذي يمتلكها هؤلاء الناس في التجارة عليك أن تعلم أنهم لا يحتفظون عادة إلا بمذكرة صغيرة، وأن معظمهم لم يفكر أبدا في التجارة قبل أن يغادر حضرموت. وتنطبق هذه الملاحظة بشكل أساسي على القبائل، إذ أن كثيرا منهم لم يفعل شيئا في بلاده ما عدا استخدام البندقية وتدخين الشيشة. أما في باتافيا فتراهم كل صباح وهم يحملون صرة كبيرة فوق الظهر وعصا في اليد. ويشرعون في السير عبر المدينة وضواحيها بالخطى أنفسها التي كانوا يجوبون بها الصحراء قبل وقت ليس بطويل. ويطلق الناس عليهم بالعربية “أبو البناكس”. والبناكس جمع “بنكس” وهي كلمة ملايوية تعني: صرة أو رزمة أو حزمة.

وأهم بضاعة يتعامل فيها التجار العرب: الأقمشة القطنية المستوردة من أوروبا أو الهند، والتي يسمونها “البز” أو “القماش”. ويتجاوز حجم معاملاتهم في هذه البضاعة حجم معاملاتهم في جميع البضائع الأخرى. فهم يتاجرون بالأقمشة في مختلف أنحاء الأرخبيل الهندي، بينما تنحصر تجارتهم في البضائع الأخرى في مدن أو مناطق بعينها.

والبضاعة التي تأتي بعد الأقمشة من ناحية الأهمية: الأحجار الكريمة. وهناك سبعة عرب على الأقل في باتافيا يتاجرون بهذه البضاعة. وهم لا يملكون محلات تجارية كما هو الحال بالنسبة للأوروبيين. ولهذا فهم لا يبيعون صيغ الزينة، ويكتفون ببيع الأحجار الكريمة. وبالطبع لا يقوم أي فرد بالتجوال بهذه البضاعة كما يحدث للبز والقماش. كما أن هذه البضاعة لا تباع إلا لزبائن مرموقين وموثوق بهم.

وفي المرتبة الثالثة تأتي مجموعة الكماليات المستوردة من أوروبا: كأدوات الزينة الذهبية والفضية، والساعات، والمعلبات، والأسلحة، والخزف، والأقفال، والمعدات الحديدية والنحاسية الأخرى، والسجاير، والبترول… الخ. ويبدو أن العرب يتاجرون بكل شيء باستثناء المشروبات الروحية التي لا يعرفونها مطلقا. ويباع الجزء الأكبر من تلك الكماليات المستوردة خارج المدن الرئيسة. فحسب علمي لا توجد في باتافيا أو سمرانج أو سربايا أو سنغافورة دكاكين عربية تبيع مثل تلك البضائع. ومن الأمور اللافتة للانتباه أن الأوروبيين لا يشترون شيئا، باستثناء الأحجار الكريمة، من التجار العرب الذين يبيعون بالتجزئة. والأرمن والبنجاليون، وليس العرب، هم الذين يقومون باستيراد بعض البضائع بالجملة من منطقة الخليج العربي. ويشتري منهم العرب التمر والسمن وماء الورد والعقيق والمسبحات، والعقاقير العربية والكتب التي تطبع في الشرق.

وبالمقابل يتاجر العرب بكل ما له علاقة بالصناعة والزراعة المحلية، بما في ذلك منتجات الغابات والأراضي البكر. فهم يقايضون السكان البدائيين ويعطونهم بعض السلع الأوروبية مقابل تلك المنتجات. ومن أجل ذلك يغامر العرب بشجاعة مدهشة ويتوغلون في مناطق تنعدم فيها حماية الدولة ويحققون بعض المكاسب. ولا يترددون كذلك في تقديم بعض الإغراءات للمتوحشين ليجعلوهم زبائن دائمين لهم. ويقوم التجار العرب ببيع تلك المنتجات في مراكز التوزيع الرئيسة في الأرخبيل الهندي. ومن أهم تلك المنتجات: الحيوانات والجلود والباتيك، “القماش القطني المصبوغ باليد”، والأرز والعسل والتبغ والنارجيلة والبلاستيك والفلفل والبن …الخ. ففي موسم الرياح الشرقية مثلا يحضر العرب من جزيرتي ماكاسار ولاسوند عددا كبيرا من الخيول ويبيعونها في الموانئ الواقعة في جزيرتي جاوه وسنغافورة.

وسبق إن ذكرت أن المراكز التجارية الرئيسية للعرب هي: باتافيا وسمرانج وسربايا وسنغافورة. ولكي أعطي صورة أكثر دقة لحجم التجارة العربية في تلك المدن يمكن أن أشير إلى أن هناك 22 عربيا في باتافيا يستثمر أكثر من 10000 فلوران، و14 في سمرانج، و43 في سربايا. ويقدر عدد العرب الذين يقعون في هذه المرتبة بـثمانين تاجرا إلا أن معظمهم يتاجرون بأموال مقترضة. ويبدو أن البنجاليون هم الذين يوفرون الرأسمال اللازم للتجار العرب في تلك المدينة. وفي بالمبنج يبلغ عدد العرب الذين لديهم رأسمال يتجاوز 10000 فلوران: 37، وفي بيكالونجان: 18، وفي سومينب:12. ومن المعلوم أنه لا توجد في هذه المدن فروع للشركات الأوروبية ويقوم العرب ببيع البضائع الأوروبية التي يأتون بها من المراكز التجارية الكبرى. ولا يتجاوز عدد العرب من هذه الفئة في أجزاء الأرخبيل الهندي الأخرى 50 تاجرا يعمل معظمهم برأسمال مقترض.

وبعد التجارة، ينبغي علينا الحديث عن الملاحة بصفتها وسيلة دخل مهمة للعرب في الأرخبيل الهندي. وإذا كان من النادر أن نجد بحارا من بين العرب، ففي كثير من السفن النوخذة والمعلم و”الكراني” نجدهم دائما من العرب. أما أعضاء الطاقم الآخرون فهم من البحارة المحليين. ومن النادر أن يقود ربان عربي سفينة تعود ملكيتها لشخص غير عربي. ومن النادر كذلك أن تجد سفينة عربية يقودها ربان غير عربي. ويمكن أن تجد في عدد من السفن العربية نائبا أوروبيا للربان يحمل شهادة في الملاحة وذلك التزاما بالشروط التي تفرضها شركات الشحن والتأمين الأوروبية. أما الربابنة العرب فلا يقبلون أبدا الخضوع لامتحان للحصول على دبلوم في الملاحة. ولا يقومون بتأمين سفنهم إلا إذا أجبروا على ذلك. ومن المعروف أن الملاحة كانت منذ وقت طويل المهنة المفضلة للعرب في الأرخبيل الهندي على الرغم من أنهم في الغالب لم يروا البحر قبل مغادرتهم لوطنهم. وفي مطلع هذا القرن [التاسع عشر]، حينما ارتفع عدد المهاجرين العرب في الأرخبيل الهندي، كانت الملاحة هي مصدر الدخل الرئيس الذي ساعد على تطور المستوطنات العربية لاسيما في بالمبنج وبونتانياك وجريسه، وفي وقت لاحق: في مستوطنتي سربايا وسنغافورة. وفي الربع الأول من القرن كان أصحاب السفن العربية يمارسون القرصنة البحرية، أو على الأقل يقومون بشراء البضائع المنهوبة. وقد قـُدّم لي تقرير يعود إلى تلك الفترة ويبيّن أنه من النادر أن تجد بحارا عربيا بريئا تماما من تلك الأعمال. وبفعل الإجراءات الصارمة التي اتخذتها الحكومتان الهولندية والبريطانية والتي أدت إلى ارتفاع مستوى خطورة هذه المهنة وقلة مكسبها انحصرت الملاحة العربية تدريجيا في النشاط التجاري. كما أنها باتت أكثر ربحا بفضل النمو الاقتصادي وانتعاش حياة السكان المحليين نتيجة لترسيخ الهيمنة الأوروبية. وقد بلغت الملاحة العربية أوج  ازدهارها بين سنة 1845 وسنة 1855. ففي هذه المدة حقق الملاحون العرب أرباحهم الضخمة. لكن بعد ذلك بدؤوا يتقهقرون، إذ أن تطور الملاحة بالبخار في الأرخبيل الهندي كان قاتلا بالنسبة للسفن الشراعية. وقد ظلت الملاحة البخارية في البداية حكرا على الشركات الأوروبية. وشهدت السنوات الأخيرة دخول عدد قليل جدا من الصينيين والعرب في هذا المجال، ولكن في نطاق ضيق للغاية.

ويقال أن السفن الشراعية العربية كانت في مطلع القرن تجوب البحار بين الأرخبيل الهندي والشرق من جهة وبين موانئ الخليج العربي والبحر الأحمر من جهة أخرى. لكن نشاط معظم السفن العربية ينحصر اليوم في الملاحة الساحلية بين المرافئ. ويستثنى من ذلك السفن البخارية التي تغادر سنغافورة باتجاه الصين شرقا أو جدة غربا. وفي معظم الأحيان تقوم السفن البخارية المتجهة إلى جدة بنقل الحجاج فقط. و قد اختار أصحابها وكلاء لهم في كثير من موانئ الأرخبيل الهندي. وينبغي أن نميز بين هؤلاء الوكلاء وبين وكلاء الحج المكيين الذين تحدثت عنهم في المقدمة. فوكلاء الشركات الملاحية يكتفون بصرف تذاكر السفر. وتجدر الإشارة أيضا إلى أن السفن البخارية الهولندية تنظم اليوم رحلات بين باتافيا وجدة، وتشكل هكذا منافسا مهما للسفن العربية لاسيما في ما يتعلق بنقل الحجاج من جزيرة جاوه والساحل الغربي لجزيرة سومطره.

أما بالنسبة للسفن الشراعية العربية فنشاطها أخذ يتضاءل بشكل سريع. ولا تزال تربط بين الموانئ التي لا تصل إليها السفن البخارية بشكل منتظم. وتقوم بنقل بضائع ذات قيمة محدودة مثل المواشي والخيول بين كثير من الموانئ التي تقع في جزر ملوك ولاسوند وسيلبس وبورناي. وعادة تقضي وقتا طويلا في التنقل بين تلك الموانئ. لذلك فأن عددها يتناقص بسرعة ولاشك أنها ستختفي قريبا لتترك البحار كلها للسفن البخارية. فقبل خمس وثلاثين سنة كان هناك 60 سفينة شراعية عربية كبيرة في بالمبنج. واليوم لم يبق منها إلا 22 سفينة.

وينحصر النشاط الزراعي للعرب في الأرخبيل الهندي في مستوطنات باتافيا وبونتانياك وسنغافورة. ومن النادر أن ترى عربيا يمسك المحراث بيده إلا إذا كان مولدا فقيرا. فالعرب في الأرخبيل الهندي، مثلما هو الحال بالنسبة للارستقراطيين من السكان المحليين، يعتقدون أن العمل في الحقل يتعارض مع شرفهم. ويمتلك كثير من العرب في منطقة باتافيا مساحات واسعة كانت الحكومة الهولندية قد حجزتها في مطلع القرن التاسع عشر واشترطت أن يتم ضمان ملكية تلك الأراضي والحقول لورثتها من السكان المحليين. ومع ذلك ظلت الملكية الوراثية للأرض مرتبطة بالمالك العربي الذي يتحصل منها على ريع منتظم يكوّن له في كثير من الأحيان المصدر الوحيد للدخل. ومن النادر أن يقوم المالك العربي بزراعة أرضه بنفسه. ولا أعرف إلا اثنين من العرب الذين يقومون بتربية الحيوانات بأنفسهم في مزارعهم. ويملك بعض العرب حقولا صغيرة في ضواحي باتافيا ويستأجرون مستوطنين آخرين لزراعتها. وبشكل عام يؤثر شح العرب سلبا على إدارة أراضيهم وزراعتها كما يؤثر ذلك في تجارتهم. فهم يحاولون أن يكسبوا من الأرض أكبر قدر من الفائدة دون أن يكلفوا أنفسهم عناء التفكير في تطويرها بالوسائل الزراعية الحديثة. فالخوف من النفقات يجعلهم ينسون أن الأرض يمكن أن تعوضهم عما يضعونه فيها من مال. ولهذا تبدو أراضيهم بشكل عام في حالة سيئة.

وفي نواحي بونتانياك تعود ملكية نصف الأراضي المزروعة تقريبا للعرب.(4) ويملك الأغنياء منهم مزارع لنخيل جوز الهند التي تقع في الساحل أو ضفاف نهر كابواس. وفي السابق يتم استخراج زيت النخيل في بونتانياك، أما اليوم فيباع جوز الهند في سنغافورة. ويستأجر العرب عمالا محليين للعمل في تلك المزارع. وفي الساحل الغربي لجزيرة بورناي يملك بعض العرب الفقراء حقولا صغيرة لزراعة الأرز ويقومون في الغالب بزراعتها بأنفسهم. ويشكل هذا النوع من الزراعة المصدر الرئيس للدخل بالنسبة للمولدين في مستوطنة كوبو. والمولدون العرب هم الذين يزرعون معظم الأراضي التي تقع في الساحل الغربي لجزيرة بورناي. أما العرب المولودون في حضرموت فلا يملكون إلا قليلا من الأراضي في بونتانياك. وفي سنغافورة يملك كثير من العرب مزارع واسعة لنخيل جوز الهند. وهناك اثنان منهم لديهما مزارع لقصب السكر ومصانع قديمة لتنقيته.

وفي بيكالونجان استأجر أحد العرب من السكان المحليين نحو 50 هكتارا من حقول الأرز ويقوم بزراعتها بواسطة مستوطنين آخرين. وفي هذه المدينة هناك كثير من المولدين الفقراء الذين يقومون بزراعة الفواكه وسط بساتينهم الصغيرة. ويعد هذا النوع من الزراعة “الشخصية” مصدر الدخل الرئيس لكثير من المولدين في مستوطنات مواراتلابج وكرانج أنجار الواقعتين بالقرب من بالمبنج. ويملك أحد المولدين في سياك مزرعة للتبغ. وفي أتشيه وأساهان يقوم عدد من المولدين بزراعة حقولهم الصغيرة بأنفسهم. والظاهرة نفسها نجدها في جزيرة سومباوا. أما في تونتولي الواقعة في جزيرة سيلبس فهناك أحد عشر عربيا يقومون بالعمل في حقولهم التي يزرعون فيها الأرز مثل جميع السكان المحليين في المدينة. وفي خارج نطاق تلك المناطق التي ذكرناها لن تجد إلا نماذج نادرة من العرب أو المولدين الذين يمارسون مهنة الزراعة.

ويوجد كثير من العرب الفقراء ولاسيما المولدين الذين يمارسون مهنة الصيد. فبين الأربعة عشر عربيا الذين يسكنون في جزيرة نياس عشرة يحترفون هذه المهنة. ويشكل صيد السمك مهنة جذابة في نظر المولدين الساكنين في بيكالونجان وأتشيه. وبالمقابل لا يمارس أي من المولدين صيد السمك أو تمليحه في كوبو على الرغم من أنه يعد صناعة مهمة في تلك المدينة. وفي بعض القرى يمكن أن يشكل رعي الغنم مصدرا جيدا للدخل. وأخيرا يمكن أن نجد في جزيرة جاوه كثيرا من العرب الذين يقومون بتأجير الخيول أو العربات.

وبالنسبة للمهن اليدوية الحرفية فمن النادر جدا  أن يمارسها أحد من العرب. والمولدون فقط هم الذين يقتربون منها. فبالقرب من باتافيا يمتلك عثمان بن عبد الله بن يحي مؤسسة للطباعة الحجرية. ويملك “سيد” آخر مطبعة أخرى في بالمبنج. وهناك في الأرخبيل الهندي خمسة مهندسين عرب للساعات، وثلاثة صاغه، وأربعة  نجارين، وخياط واحد، وعربي أخر يصنع شراب الليمون، وميكانيكي يعمل في سفينة بخارية تابعة للحكومة. وهناك بعض المولدين يقومون بالبحث عن الأحجار الكريمة في لانداك الواقعة في السواحل الغربية لإمارة بورناي. وسمعت أن بعض العرب قد أصبحوا حمالين في باسروان وبانجيل وبول ينج وأتشيه. وبالقرب من باتافيا يملك أحد العرب المولودين في حضرموت مصنعا كبيرا لإنتاج الجير. ويملك اثنان آخران مؤسسات لصناعة الباتيك. وفي بانجيل يقوم أحد العرب بممارسة العلاج الطبيعي.”التدليك”.

 وفي مختلف أنحاء الأرخبيل الهندي تقريبا تقوم النساء في الأسر العربية الفقيرة برفد دخل الأسرة من خلال القيام ببعض الأعمال اليدوية البسيطة. وتعد صناعة الباتيك أكثر تلك الأعمال انتشارا. وقد ذكرت لي أسماء بعض العرب الذين يعيشون مما تكسبه زوجاتهم الأربع من هذه الصناعة.

ومن بين العرب الذين يمارسون الأعمال الخاصة في الأرخبيل الهندي يبرز “المحامون”. وهناك 20 منهم في بالمبنج، و4 في بونتانياك، وواحد في شيريبون، وآخر في سيلبس. ويشكل هؤلاء الرجال الذين يقومون بمهمة الدفاع في القضايا الميئوس منها أمام المحاكم عبئا ثقيلا على زبائنهم من السكان المحليين. وفي بونتانياك يكوّنون جماعة غير محترمة في نظر القضاة الهولنديين.

ومن النادر جدا أن يختار العرب مهنتهم من بين الوظائف الحكومية. والمولدون فقط هم الذين يمكن أن يفعلوا ذلك. ولكنهم يفضلون العمل لدى أمير محلي أو حاكم تابع للحكومة على أن يصبحوا موظفين لدى الحكومة الهولندية أو الحكومة البريطانية. وهذا لا ينطبق على المهام الخدمية العامة التي لا يُدفع لها أجر مثل: مهمة رئيس المستوطنة “الأبو” التي يشغلها كثير من العرب المولودون في حضرموت. ولا أعرف في جزيرة جاوه كلها إلا اثنين من العرب الذين يعملون لدى الحكومة الهولندية بشكل مباشر: مأمور مدينة ماجلان، ونائب مأمور بلدة بلبس. وبالنسبة للعائلة التي ينتمي إليها مأمور مدينة تجاندور فهي قد صارت جاوية إلى درجة أنها لم تعد تعرف شيئا عن أصولها العربية. أما في بونتانياك فيبدو أن العمل لدى الحكومة أصبح ظاهرة منتشرة بين المولدين. وقد تمكـّن أحدهم أن يصبح نائب الملك لدى المحكمة المحلية، وعـُـيّن مولد آخر مساعدا له.

وسأتحدث في الفصل القادم عن العرب الذي يقومون ببعض المهن الدينية أو التعليمية. لكن قبل أن أنهي هذا الفصل ينبغي الإشارة إلى أن العرب في الأراضي الهولندية يبتعدون تماما عن وظيفة جباية الضرائب وهي المهنة التي يسعى إليها الصينيون سعيا. وفي سنغافورة لا يوجد إلا اثنان من العرب الذين اشتركوا العام الماضي في المجموعة التي قامت بجباية الضرائب في مزارع الأفيون. أما أفراد المجموعة الآخرون فهم من الصينيين. ومع ذلك فقد كان العرب في السابق هم الذين يقومون بجباية الضرائب لسلطان سومينب التي تخضع للحكومة الهولندية المباشرة منذ سنة 1883.

وليس هناك إلا عدد محدود جدا من العرب الذين يعيشون من الصدقات أو المهن غير الشريفة في الأرخبيل الهندي. في سربايا يعيش ثلاثة عرب من المساعدات التي يقدمها لم مواطنوهم.  وتبنت عائلة مأمور سومينب أحد العرب. وآخر تبناه أصدقاؤه المحليون. وفي سياك هناك ثلاثة من العرب الفقراء لا توجد لديهم مهنة معروفة ويبدو أن السلطان وابنه يقدمون لهم المساعدات من حين لآخر. وفي بانجيل أخبرتني الشرطة أنها تشك في أن بعض العرب يعيشون عن طريق تهريب البن والأفيون. وفي كل الأحوال هذه حالة شاذة، فمن النادر جدا أن يُشتبه بتورط أحد العرب في قضية تهريب في جميع أنحاء الأرخبيل الهندي.

ومن خلال الإحصائيات التي استطعت الحصول عليها تبين لي أن هناك 345 عربيا في الأراضي الهولندية يقع دخلهم السنوي بين 600 و3600 فلوران، و41 عربيا بين 3600 و12000 فلوران، و9 عرب يتجاوز دخلهم السنوي 12000 فلوران. وفي الأراضي البريطانية (سنغافورة) هناك 90 عربيا يقع دخلهم السنوي بين 600 و3600 فلوران، و50 عربيا بين 3600 و12000 فلوران، و15 عربيا يتجاوز دخلهم السنوي 12000 فلوران. وبالمقابل لم استطع العثور على أية إحصائيات في بولو بينانج ولا في ملاكا. وفي هذه المدينة الأخيرة قيل لي إن الدخل السنوي لأي عربي فيها لا يتجاوز 600 فلوران باستثناء ثلاثة أو أربعة من الحضارم. وبشكل عام من الصعب أن تحدد الضريبة على دخل أحد العرب الذين يمارسون التجارة. فكثير منهم يقومون بأعمال تفوق قدراتهم. لكن الشيء الذي يمكن تأكيده هو أن هناك كثيرا من العرب الأغنياء المتناثرين في مختلف أرجاء الأرخبيل الهندي. وقد بين أحد التحقيقات أن عدد العرب الذين يتجاوز رأسمالهم الفعلي 30000 فلوران لا يزيد عن 21 عربيا؛ أربعة منهم في باتافيا، واثنان في بيكالونجان، واثنان في سربايا، واثنان في بالمبنج، وواحد في بونتانياك، وعشرة في سنغافورة.

وأخيرا ينبغي الإشارة إلى أنني لم أعثر على أرقام إحصائية تتعلق بالماضي ويمكن الوثوق بها واعتمادها لمعرفة إذا ما كانت الحالة الاقتصادية للعرب في الماضي أفضل مما هي عليه الآن. ومع ذلك، هناك مؤشرات تسمح لي أن أؤكد أن العرب كانوا في النصف الأول من هذا القرن [التاسع عشر] يجمعون ثروات كبيرة بطرق أسهل من اليوم، وذلك بسبب قلة عددهم. كما أن منافسة الأوروبيين والصينيين لهم لم تكن بعد قوية.

الهوامش:

  • في الفصل السابع من الكتاب يقول فان دن بيرخ “ومن ناحية أخرى يوجد في بعض الأماكن مرابون آخرون من غير العرب ولا يتم النظر للجانب السلبي للمهنة التي يمارسونها ولا يتم ربطه بقوميتهم. وأود هنا أن أشير إلى أن الأماكن التي تمارس فيها مهنة الربا من قبل أشخاص ينتمون إلى مختلف القوميات هي الأكثر عددا. ونادرة جدا هي الأماكن التي يمارس فيها العرب وحدهم الربا”. أما حامد القادري فقد كتب في (كفاح أبناء العرب ضد الاستعمار الهولندي في إندونيسيا) “صحيح أن هناك من العرب من كانوا يتعاملون بالربا الذي حرمه الإسلام، إلا أن هؤلاء لا يمثلون البتة صورة العرب الحقيقية”، دار جامعة عدن للطباعة والنشر، عدن 1998، ص 20.

  • يقصد بهم العرب

  • في الجزء الأول من الكتاب (ص39) يضع المؤلف داخل الفئة الاجتماعية التي يطلق عليها “البرجوازية” جميع سكان المدن من غير “السادة والقبائل” ومنهم التجار “القروان” وأصحاب الحرف أو الصنائع، والعمال والمزارعين. ومن الواضح أن هذا الاستخدام بعيد جدا عن الاستخدام العام للكلمة الذي يلصقها بالثروة.

4-  من المعروف أن بونتانياك أسسها الحضارم في القرن الثامن عشر وظلت وقتا طويلا سلطنة عربية

Comments are Closed