أيامي في المدرسة الوسطى
Posted by:مسعود عمشوش | يونيو 22, 2016
مسعود عمشوش
في مطلع العام الدراسي 1966/1967، مع انتقالي إلى المستوى الأول من المدرسة الوسطى (ما يعادل الصف الخامس)، توقفت عن التوجه شرقا باتجاه حارات حي القرن، وتوجهت غربا؛ فالمدرسة الوسطى تقع في (بئر بن داعر) وسط سيؤن، في المبنى الذي شيّده أبوبكر الكاف في منتصف ثلاثينيات القرن العشرين، وباعه في مطلع الستينيات على إدارة المعارف. وفي الحقيقة كان المبنى قديما ومتهالكا وبعض أجنحته منهارة ومغلقة. لكنه يٌعد تحفة أثرية واسعة، وبه ساحات كبيرة وحديقة ومسبح ومسرح وملاعب لكرة الطائرة وكرة السلة والتنس الأرضي. والأهم أنه كان يتوسط مدينة سيؤن الطويلة.
وقد أدى ذلك إلى تغيير كبير في البيئة التي كنت أعيش فيها خلال السنوات الأربع السابقة؛ فبعد أن كان حي القرن هو المحيط الذي يُسمح لي بالتنقل فيه أصبحت أتنقل في جميع أرجاء سيؤن بذريعة الذهاب إلى المدرسة: صباحا للدراسة، وعصرا للمشاركة في الجمعيات العلمية، ومساءً للمذاكرة. وساعدني ذلك في التعرف على زملاء ليس من أحياء سيؤن الأخرى فقط، لكن أيضا من مختلف البلدات المحيطة؛ فالمدرسة كان بها داخلية يسكنها طلبة من تاربة وبور وشبام وساه وحورة والريدة والجول. ونتيجة لذلك، وبعكس أخي سالم الذي ظل ملتصقا بعدد كبير من الأصدقاء من أبناء القرن وفي مقدمتهم صالح مطبق فرج مبارك سالمين، تقلص احتكاكي بزملاء طفولتي الأولى في أزقة القرن.
وبما أن مدرسة سيؤن الوسطى كانت حينها المدرسة الوحيدة التي تمنح تعليما متوسطا متكاملا على مستوى الوادي فقد كانت مكتظة بالطلبة، الذين كانوا في الغالب يوزعون إلى شعب، يصل عددها إلى ثلاث. وكان في المدرسة اثنان مدرسين سودانيين، أحدهما يدعى عبد الحميد ميرغني الذي كان يدرسنا اللغة الانجليزية. ومن أبرز المدرسين الذين أتذكرهم اليوم الأستاذ سالم باحميد الذي كان يدرس اللغة العربية والأستاذ عبد القادر الروش الذي درسنا الدين، والأستاذ عقيل السقاف، الذي درسني التربية الفنية وأصبح زميل سفري إلى فرنسا عام 1975. ولفترة وجيزة انتدب اثنان مدرسين سعوديان للتدريس بالمدرسة. ومن بين المديرين الذين تناوبوا على المدرسة أتذكر الأستاذ عبد المجيد بن هرهرة.
في الغالب كان زملائي في صفوف المدرسة الوسطى أكبر مني سناً، وعمالقة؛ منهم عوض باصحيح وعلي الكاف وفائز بازهير وسعيد الجابري ورمضان باجبير وعبد الحافظ باحشوان وعباس مالك بن قبيلة وسعيد القرزي وعلي الروشن وأحمد ومحمد علي الحبشي وغالب بافطيم الذي بدأ مشواره الإعلامي بالتقديم وقراءة قصائد نزار قباني في حفلات مدرسة سيؤن الوسطى. وإذا كان زملائي وأصدقائي يقبلونني زميلا لهم في الصف وفي جلساتهم في اتحاد الطلبة أو السينما ومكتبة الشهيد فهم يرفضون تماما أن أشاركهم لعبة الطائرة لأن أي فريق أكون معه سينهزم حتما بسبب صغري.

ومن أبرز معالم المدرسة الوسطى، إضافة إلى تمثال الأسد البرونزي والمسرح والمسبح الذي يحرص عمنا عوض الصالي على ملئه كل خميس لنغتسل مع ثيابنا وسطه، مقهى بوشيخ (السيد)، الذي كان يبيع لنا -تحت الشجرة- الشاي الملبن والكيك. وكان (الأخوان الشكالة) يبيعان الآيسكريم (المصه ابو عود) بشكل منتظم. لهذا كنت بحاجة إلى النقود. وللحصول عليها كان عليّ أن أقوم ببعض الأعمال البسيطة في المزرعة، وتحديدا (تفخيط) النخيل، وهي مهمة مثمرة ومغرية؛ فقد كنت أكسب منها بعض أنصاف الدراهم اللازمة لشراء الشاي والكيك المصه وكذلك تذاكر السينما. فقد كانت سينما سيؤن تقع بجوار المدرسة. وكنا نقنع المسؤول عن التحضير في المذاكرة المسائية بتسجيل أسماءنا زورا. وكنت أواظب على حضور أفلام الكاوبوي والأفلام الهندية بعكس بعض الأصدقاء الذين لا يشاهدون إلا أفلام فريد الأطرش وفريد شوقي.

لقد تزامن انتقالي إلى المدرسة الوسطى مع بداية مرحلة الغليان الثوري والنضال ضد الاستعمار البريطاني على مستوى حضرموت والجنوب بشكل عام. فقبيل الاستقلال شهدت سيؤن عددا كبيرا من الأحداث السياسية، كان منتسبو نادي الشباب بسيؤن ونادي الوحدة بالقرن والمدرسة الثانوية والمدرسة الوسطى من أكثر المشاركين فيها. بالنسبة لنا في المدرسة الوسطى كانت مشاركتنا تنحصر في الإضرابات والمسيرات والبيانات التي عادة ما نجدها ملصقة في بوابة المدرسة. وإذا كنت أحب الإضرابات التي كنت أعتبرها مجرد إجازة، والمسيرات، فقد كنت أجهل تماما كواليس تلك الأحداث السياسية الصاخبة. وقد شاركت في المسيرة الطلابية التي نظمها – في 10 سبتمبر 1966 – اتحاد الطلبة، ونجم عنها ما عُرف (بأحداث الرابطة) ضد المقترحات الدستورية، واستشهد على إثرها زميلي في الصف (الأول متوسط): محمد عبد القادر جواس، وبترت كذلك يد برك هبيص. وشاركت أيضا في المسيرة التي توجهت إلى السكرتيرة البريطانية وتم خلالها اقتلاع كل أعمدة التلفون التي تربط السكرتارية بمعسكر حصن الحوارث. وعند دخول الجبهة القومية إلى سيؤن –في مطلع أكتوبر 1967- تم تجنيد بعض أبناء القرن في جيش التحرير: منهم سعيد بن وليد والحوطي (بوسمير)…
وبعيد الاستقلال وتحديدا عام 1968، عشت الأحداث العنيفة التي شهدتها سيؤن في إطار الصراع بين يمين الجبهة القومية ويسارها. وقد تم خلالها اعتقال عدد من أبناء القرن المناصرين لأستاذي الشهيد المناضل محمود سالم صقران المحسوب على (اليميني) قحطان الشعبي. وقد كان أخي الربيع ضمن المعتقلين.
Comments are Closed