طباع الحضارم
Posted by:مسعود عمشوش | أبريل 22, 2016
يحتوي كتابي (الحضارم في الأرخبيل الهندي على دراسات وترجمات للجزء الثاني من كتاب فان دربيرخ : (المستوطنات العربية في الأرخبيل الهندي) وهو في الأصل تقرير لاستخباراتي عن الحضارم كلفت الحكومة الهولندية ضابطها فان در بيرخ بإعداده عام 1886
الفصل الثاني:طباع المهاجرين الحضارم في الأرخبيل الهندي
إن العرب الذي يقررون حمل عصا الترحال والسفر ليسوا من أغنى السكان في حضرموت. فالحضرمي، مثل الأوروبي، لن يتغرب للبحث عن الثروة أو خاتم سليمان بعيداً عن أرضه إذا كان يتمتع ببعض المال والرخاء.
إذن ما هي الدوافع الفعلية لهجرة هؤلاء العرب في القرون السابقة؟
من المستحيل الإجابة بشكل مؤكد عن هذا السؤال… نتصور عادة أن العرب قد ذهبوا إلى الأرخبيل الهندي منذ بضعة قرون لنشر الدين الإسلامي وممارسة التجارة. لكني أستطيع أن أجزم أنه خلال الخمس عشرة سنة الأخيرة لم يصل أي عربي إلى باتافيا إلا بغرض الحصول على المال. ولا يستثنى من ذلك بعض العرب الذي يهتمون بالعلم أو الذين يشغلون بعض الوظائف الدينية. وفي الحقيقة يعد القيام ببعض المهام الدينية واجبا تفرضه ظروف الجالية ومصالحها. ومن النادر أن يتم استقدام رجال دين من حضرموت بهدف جعلهم أئمة أو خطباء للمساجد الصغيرة الموجودة في الحارات العربية. فهؤلاء لا يأتون كي يصبحوا مبشرين بل بدافع الحصول على الأجرة. والدافع نفسه نجده أيضاً وراء مجيء المهاجرين العرب الآخرين.
والحصول على المال هو سبب مجيء أولئك المهاجرين العرب غير الحضارم الذين لا يفكرون في الاستقرار في الأرخبيل الهندي. وهم، إذا حاولوا الوصول إلى مآربهم بوسائل تختلف عن تلك الطرق التي يستخدمها الحضارم، أي بواسطة استغلال طيبة السكان المحليين وسذاجتهم، فمن المؤكد أيضاً أننا لم نسمع أن أحدا منهم قد ذهب لينشر الإسلام بين آلاف “الكفار” الذين يعيشون في الشرق الأقصى.
وحينما يشعر أحد العرب المقيمين في الأرخبيل الهندي أنه لم يعد قادراً على تسيير أعماله التجارية بمفرده يقوم بتوظيف شاب من قبيلته ويفضل أن يكون من عائلته نفسها. لهذا السبب نجد أن غالبية المهاجرين في جميع المستعمرات العربية يأتون من منطقة واحدة في وادي حضرموت تمتد من شبام غربا إلى تريم شرقا. بينما يحبذ سكان وادي دوعن الذهاب إلى مستعمرات عدن وجيبوتي وسواكن أو القاهرة. ويفضل سكان المناطق الساحلية السفر إلى سواحل مالابار وحيدرأباد. أما البدو فمن النادر أن يتركوا أرضهم.
وعادة ينزل المهاجر الجديد عند وصوله إلى الأرخبيل الهندي ضيفاً على الشخص الذي استدعاه. وإذا لم يستدعه أحد يطلب من أحد أفراد عائلته أو قبيلته أن يستضيفه. ومن النادر أن يصل أحد العرب، لاسيما من فئة “السادة”، إلى الأرخبيل الهندي من غير أن يعرفه أحد يمكن أن يقوم باستقباله. وفي سنغافورة حيث ينبغي أن يمر غالبية المهاجرين القادمين من حضرموت، احترف اثنان من العرب مهنة ” استقبال المهاجرين الجدد”، فيتوليان تسكينهم، وعند الضرورة، يقرضانهم المال اللازم لمواصلة السفر بشرط أن يدفع المهاجر، في وقت لاحق، أجرة السكن والقرض مع الفائدة.
ويشكل وصول أحد المهاجرين من حضرموت حدثاً مهماً في المستوطنة التي يحل بها. فالجميع يريد الحديث إليه للاستفسار عن أخبار العائلة والقبيلة والقرية. وهو عادة ما يحمل رزمة من الرسائل من الأهل في حضرموت. وإذا لم يتم العثور على صاحب إحدى الرسائل في المستوطنة التي وصل إليها يبعثها إليه في يد أمينة.
وكان السفر من حضرموت إلى الأرخبيل الهندي يستغرق في السابق شهورا عدة. وكان على المسافر أن يركب البحر في المكلا أو في الشحر باتجاه بومباي ومنها يذهب إلى جزيرة سيلان ثم إلى أتشيه أو سنغافورة، وكل ذلك بواسطة المراكب الشراعية التي لا يزال بعض المسافرين يستخدمونها اليوم [1886). أما الأشخاص الذين يتوفر لديهم المال فيفضلون ركوب السفن الأوروبية التي تنقلهم من عدن إلى سنغافورة مباشرة. وقد سمعت بعض العرب، الذين نادراً ما يسافرون في الدرجة الأولى أو الثانية، يتحدثون بإعجاب عن سفن الشركة الفرنسية للنقل البحري.
وفي كثير من الأحيان يلجأ عدد من الشبان العرب، الذين لم يحصلوا على سقف يأويهم عند أحد الأقارب ولا يكسبون مبالغ كافية لاستئجار مساكن منفردة، إلى العيش في منزل مشترك ويدفعون أجرة السكن والبواب وقيمة الماء بشكل جماعي ويقوم كل واحد منهم بإعداد طعامه بنفسه.
وفي الأرخبيل الهندي، يستطيع أحد العرب القادمين من حضرموت، دون أن يحتاج إلى دعم أو حماية، أن يؤمن لنفسه دخلا لا بأس به، وأكبر من المبلغ الضئيل الذي يكسبه في بلده أو الذي يتحصل عليه أحد السكان المحليين. ويستطيع كذلك أن يوفر جزءا من ذلك الدخل الذي لن يكون كافيا لسد متطلبات أي أوروبي هنا. في باتافيا مثلاً، يوجد بعض العرب الذين لا يتجاوز دخلهم الشهري ثلاثين أو أربعين ” فلوران”. وإذا كان المبلغ يمكن أن يبدو مرتفعاً في بعض المستوطنات، فأن علينا أن نأخذ في الاعتبار أن تكاليف الحياة فيها أقل مما هي عليه في مقر السلطة الهولندية (باتافيا). وفي كل الأحوال، لا أعتقد أن هناك في الأرخبيل الهندي أي حضرمي- إلا إذا كان كسولا- يكسب أقل من عشرين فلوران شهرياً أي ضعف ما يحتاج إليه للعيش بشكل لائق في حضرموت.
ومن النادر أن تقابل رجلاً عربيا، سواء أكان غنياً أم فقيراً، يصرف إجمالي دخله. فالتوفير جزء من طبيعتهم، وهو الذي يؤمن للجميع، تقريباُ، نوعاً من الرخاء. ومن خصالهم المشرفة التي ينبغي ذكرها هنا: عدم نسيانهم لأفراد عائلاتهم في حضرموت حينما تبدأ الثروة تطل عليهم. وحين لا يحتاج أقاربهم للمساعدة، يقدم المهاجرون الهبات للمساجد والمدارس والمؤسسات الخيرية والدينية الأخرى. ويبعث بعضهم بالمساعدة إلى أحد العلماء أو أحد أصدقائه المسنين. ولا يفعل العربي أبدا ما يفعله الأغنياء الأوروبيون الذين ينتابهم الخجل عند رؤية أقاربهم الفقراء ويحاولون أن يتخلصوا منهم بسرعة. أما بين العرب فضرورة استفادة كل العائلة من ثروة أحد أفرادها تعد عادة راسخة تتوارثها الأجيال. وكل من يحاول أن يتهرب من أداء هذا الواجب الأخلاقي يستحقره مواطنوه الآخرون. و تصبح هذه العادة واجبا أكثر إلزاما حينما يتعلق الأمر بمساعدة الوالدين. فاحترام العرب لمن كان السبب في مجيئهم إلى هذه الدنيا أدهشني كثيراً في الأرخبيل الهندي حتى بين المولدين. وقد سبق إن لاحظه قبلي كثير من الرحالة.
ومن الصعب أن نعرف على وجه الدقة إجمالي الحوالات السنوية التي يبعثها المهاجرون العرب إلى حضرموت. مع ذلك، اعتقد أنه بالإمكان تقديرها بحوالي 150.000 فلوران. ومعظم هذه الحوالات لا تتم بواسطة المؤسسات المالية أو البنوك الأوربية التي لن تستطيع توصيل الحوالة إلى أبعد من سنغافورة أو بومباي أو عدن، أي أنها لن تسلمها مباشرة إلى صاحبها في حضرموت. لذا يتم في الغالب إرسال الحوالات مع أحد الأصدقاء أو الأقارب أو أحد أفراد العائلة الذي يود القيام بزيارة للبلاد. ولم أسمع أبداً أن أحدهم قد قصر يوماً في أداء الأمانة. وفي باتافيا هناك تاجر يبعث بحوالات الناس مباشرة إلى سيئون بعد أن وضع عند وكيله هناك مبلغ 50.000 فلوران يضيف إليه مبالغ أخرى بشكل دوري عن طريق عدن. وفي سيئون تسلم الحوالة نقداً إلى صاحبها.
كما أن الدقة التي يؤدي بها العرب في الأرخبيل الهندي فريضة الزكاة تعد علامة أخرى على أن حبهم لعمل الخير راسخ فيهم منذ القدم. ولا شك في أن حبهم لعمل الخير مساو لاعتدالهم في المأكل والملبس. فنحن لن نجد هنا حضرمياً يتعاطى المشروبات الروحية أو الأفيون. وحتى بين المولدين من النادر أن نجد هذه المثالب. إضافة إلى ذلك يحرص العرب، سواء كانوا فقراء أم أغنياء على صيانة أعراضهم والابتعاد ببناتهم عن مظاهر الانحراف. وهذا السلوك يشرفهم خاصة إذا ما لاحظنا أن الفئات الدنيا من السكان المحليين متساهلة في هذا الجانب. وفي بلدة بنكالات فقط ذكِر لي اسم إحدى المولدات العربيات التي كانت قد خرجت عن جادة الطريق.
ومن الخصال الحميدة التي يتميز بها الحضارم: احترامهم للعلم والفكر. ومن العلوم التي يفضلونها: الفقه والقانون وعلوم الدين. ففي الأرخبيل الهندي، حتى رجال القبائل الذين لم ينالوا من الحضارة إلا شيئا يسيراً، لا يستطيعون أن يظلوا بعيدين عن تأثير الرأي العام السائد تجاه العلم. ومن الأشياء القليلة التي يقدرها العرب عند الأوروبيين: دعمهم السخي للبحوث العلمية. ولهذا يتمتع العدد القليل من العلماء العرب الموجودين في الأرخبيل الهندي باحترام جميع العرب وتقديرهم. وهذا شيء غير متوقع إذا ما تذكرنا أن ثلث المهاجرين العرب ربما لم يكونوا في بلادهم إلا لصوصاً. وقد حضرت بعض اجتماعات العرب ولاحظت أن التجار الأغنياء والرؤساء المعينين من قبل الحكومة الهولندية يخاطبون عالما فقيرا ومغمورا بطريقة تبين أنهم يعتبرونهم أرفع منهم منزلة. ويتجاوز هذا التقدير مجرد علامات الاحترام المعنوية. وقد أخبرني أحد أصدقائي من التجار العرب عرفته بالصدفة أثناء إقامته في عدن أن لدى أحد العلماء العرب قضية شائكة مع أحد رجال الدين المحليين فوضع تحت تصرفه 2.500 فلوران ليستطيع أن يستعين بأفضل المحاميين إذا ما تطلب الأمر ذلك. إلا أن تلك القضية لم تصل لحسن الحظ إلى المحكمة. وهي تبيّن مدى احترام الحضارم للعلم وحبهم لعمل الخير حتى تجاه الأشخاص الذين لا تربطهم بهم قرابة أو صداقة. وهذه خصال ينبغي أن يقدرها كل إنسان محب للخير.
إن الثروة بمفردها لا تضفي على صاحبها أي نفوذ وسط المستوطنات العربية. كما أن تعيين الحكومة الهولندية لأحد العرب رئيسا أو”أبو” لإحدى المستوطنات العربية لا يضفي أية هيبة حتى وإن كانت لديه رتبة ملازم أو نقيب أو عقيد. ومن الطبيعي أن يرضخ الناس للأوامر التي ينص عليها القانون، لأن عدم الطاعة سيُعدّ عصيانا وستتم معاقبة مرتكبه. لكن على السلطات المحلية أن لا تتوقع أن يؤثر الـ “أبو” على أفراد المستوطنة إن لم يكن له نفوذ قبل تعيينه، وإذا لم يكن يتمتع بوضع مادي مستقل. وفي حالة عدم وجود هذين الشرطين، لن يستطيع الـ ” أبو” أن يفرض نفوذه وسلطته القانونية على من هم أعلى منه مركزاً مالياً أو اجتماعيا.
ويمكن أن أذكر في هذا السياق بعض الأمثلة المثيرة أو المتعلقة بتحصيل الضرائب. وإضافة إلى ذلك، لن ينجو الـ ” أبو” الذي لا ينتمي إلى إحدى الفئات الغنية أو العليا في الجالية من كافة أنواع المتاعب التي سيسببها له مواطنوه. فـ”السيد” لا يحب أن يخضع لأوامر أحد القبائل الأميين. ولن ينصاع أحد أفراد عائلة مرموقة أو أقارب شيخ قبيلة إلا مكرها لأوامر شخص لن يكون في حضرموت إلا حرفياً أو خادماً. وفي كثير من الحالات اضطرت السلطات المحلية أن تأخذ رأي الجالية العربية نفسها قبل أن تقدم على تعيين ” أبو” جديد. وقد أعطا هذا الإجراء نتائج جيدة.
ولاشك أن تعيين إحدى الشخصيات المرموقة ” أبو” لإحدى المستوطنات سيرفع من نفوذها وهيبتها. ولكن يجب أن لا نتوقع أن نجد عند العرب ذلك الولع بالألقاب الفخرية والرسمية الذي نلمسه عند الصينيين الأثرياء ولاسيما في جزيرة جاوه. وقد حدث في إحدى المستوطنات العربية الكبيرة أن السلطة لم تعثر على شخص مناسب مستعد للقيام بمهام الـ ” أبو”. وفي الواقع لن تساوي المزايا المادية والمعنوية المحدودة جداً التي يمكن أن يحصل عليها المرء من هذا المنصب التعب والنكد الملازمين له. فما الذي يمكن أن يجنيه الإنسان من وضع نفسه يوماً وسيطاً بين السلطات الهولندية وبقية مواطنيه عدا مشاعر العداوة من قبل الطرفين؟ ويعد وجود عدد من المتنافسين على منصب الـ ” أبو” مؤشرا على وجود صراع داخل المستوطنة حتى وإن كان هذا الصراع لم يبرز بعد بشكل جلي. ومن بين الأسباب المتكررة لهذا الصراع: نفور العرب المولودين في حضرموت من المولدين، وكره السادة الفقراء للتجار الأغنياء ذوي الأصول الاجتماعية الدنيا.(1) ومن النادر أن تؤدي الصراعات السياسية في حضرموت إلى بروز نزعات هامة في الأرخبيل الهندي.
أما في ما يتعلق بالجريمة، فالإحصائيات تميل كثيرا إلى صالح العرب، أي أنها تعكس ابتعاد العرب عن الجريمة. وقد أكد لي أحد القضاة الهولنديين أنه خلال مدة اثنتي عشرة سنة لم يمثل أمامه إلا عربي واحد. وتشير مذكرة قدمها لي أحد السجون أنه خلال السنوات 1881 و 1884 و 1885م، لم تصدر إلا ثمانية أحكام بالسجن في حق العرب: سبعة منهم مولدون، وواحد جاء من حضرموت ودخل السجن بسبب إخلاله بالآداب العامة. أما المولدون فقد سجنوا بسبب ارتكابهم لسرقات جسيمة. وبالنسبة للأحكام الخفيفة فالإحصائيات الرسمية تضع العرب والصينيين والبنجاليين والأجانب الأخرى (من غير المسيحيين) في الخانة نفسها.
وعلى الرغم من تلك الخصال الحميدة التي تتسم بها طباع العرب، فالناس الآخرون ينظرون إليهم بصورة سيئة للغاية. كما أن العرب هم الفئة التي تحاول الابتعاد قدر الإمكان من الأوروبيين. فبينما نجد أن الصينيين الأغنياء يسعون عادة للاقتراب من الجالية الأوربية، فلا شيء من هذا القبيل يوجد عند العرب الذين لا يرسلون أبناءهم إلى المدارس الحكومية، أو مدارس البعثات التبشيرية. ففي مدينة سومينب فقط شاهدت طفلا عربيا في إحدى المدارس الحكومية الخاصة بالسكان المحليين. ويبدو أن العرب في سنغافورة (الخاضعة للاستعمار البريطاني) يقدرون أكثر مزايا التعليم الأوربي. ففي تلك المستعمرة نجد على الأقل عددا من التلاميذ العرب في المدارس الحكومية. وفي تلك لمدينة يوجد عضو عربي في مجلس الولاية. كما أن الشبان العرب كوّنوا لأنفسهم جمعية خاصة بهم تضم نحو أربعين عضوا وهي عبارة عن ناد ترفيهي يشبه كثيرا تلك الأندية المنتشرة في المناطق التي تخضع لبريطانيا. وفي هذه الجمعية، إضافة إلى تنظيم بعض حلقات النقاش، يمارس الشباب ألعابا مثل البلياردو والشطرنج. لكنهم لا يقتربون أبدا من ألعاب القمار المحرمة.
وفي مستوطنة سنغافورة، كما هو الحال في المناطق التي تخضع للحكومة الهولندية، لا يختلط العرب بالأوروبيين، وأعتقد أن سمعتهم هناك، ولاسيما سمعتهم التجارية، أسوى بكثير من سمعتهم في باتافيا.
وفي ما عدا بعض الاستثناءات النادرة فإن الأحياء العربية غير نظيفة، ولا شيء فيها يمكن أن يجذب الزائر الأوروبي إليها. ولا يوجد كذلك شيء لافت للانتباه داخل البيوت العربية. فالعرب، بعكس الصينيين الذين يميلون إلى إبراز ثرائهم وأناقة منازلهم وعرباتهم، لا يولون اهتماما بالكماليات والمظاهر داخل بيوتهم أو في خارجها، بل إن غالبيتهم يحاولون أن يبدوا أكثر فقرا مما هو عليه فعلا. وبالإضافة إلى ذلك لا يمكن مشاهدة نساء العرب أو أبنائهم ولاسيما في بيوت العائلات المحافظة. كما جلب العرب معهم من الصحراء نوعا من الصراحة- لكي لا نقول من الوقاحة- التي لا تروق لأحد هنا، كما أنها ليست الطريقة المثلى لكسب رضاء الحكومة، لاسيما أن العرب، فضلا عن وقاحتهم، لا يكنون أي احترام للسلطات المحلية الهولندية. وهذه السمات تبرز بشكل أوضح بين المهاجرين من القبائل، وهذا الأمر ليس بمستغرب إذا ما عرفنا نمط الحياة الذي تربى عليه هؤلاء الناس قبل مجيئهم إلى الأرخبيل الهندي. ومع أن “السادة” والبرجوازيين يعتنون عادة أكثر بمظهرهم الخارجي وذلك بسبب انتمائهم إلى مجتمع حضري أرقى من المجتمع القبلي، فأساليبهم في التعامل لا ترقى إلى مستوى المجتمع الأوروبي.
ومن الخصال السلبية التي تبهت الشخصية العربية في الأرخبيل الهندي: طبعهم الانتقامي الذي يميل دائما للثأر، وحبهم للمقاضاة وجدلهم الدائم مع رجال الدين المحليين حول قضية الشريعة. وهذه المناقشات بالذات تزعج السلطات الهولندية التي وفقا للأنظمة الاستعمارية، يجب أن تمتنع قدر الإمكان عن التدخل في الأمور الدينية، ولأنها- بالإضافة إلى ذلك- لا تمتلك الخلفية المعرفية اللازمة للحسم في موضوعات من هذا النوع.
وأخيرا ليس لدى العرب أي حياء حينما يتعلق الأمر بالنقود. كما أنهم ليسوا متسامحين في التجارة. وفي كثير من الأحيان، يقع العديد منهم ضحية الشح الشديد. فهم يبحثون دائما وقبل كل شيء عن السعر الزهيد حتى حين يختارون محاميا أو موثقا أو طبيبا. وهم في الواقع مخدوعون بحرصهم المزعوم. وفي الوقت الحاضر، يلاحظ أن عددا قليلا جدا من العرب الذين سكنوا في الأرخبيل الهندي وكونوا ثروة لا بأس بها، وبعد ذلك عادوا إلى حضرموت للاستقرار فيها. صحيح أن كثيرا منهم يعودون إلى حضرموت كي يقضوا فيها بعض الوقت ويزورا عائلاتهم، أو يأخذوا إليها أولادهم، ومنهم من يشتري هناك نخلا أو يبني بيتا، وربما يتزوج. ولكن، بعكس الهولنديين، لا يأخذ الحضارم إلى بلادهم جزءا من الثروة التي كونوها في الأرخبيل الهندي. والسبب الرئيس لذلك هو قلة الأمن في حضرموت. ويكمن أحد الأسباب الأخرى في أن نساءهم من مواليد الأرخبيل الهندي ومعظمهن غير مستعدات للعيش في بلد لا يعرفن لغته.
وبالإضافة إلى تلك الأسباب العامة، هنالك بعض المعوقات الخاصة. فمعظم العرب الذين استطاعوا أن يجمعوا ثروات كبيرة في الأرخبيل الهندي ما عادوا يرغبون في العودة إلى وطنهم بعد أن عاشوا مدة طويلة بعيدا عنه، وكانوا، في معظم الأحيان، قد غادروه صغار السن وفقراء. ولا شك أن وضعهم اليوم هناك سيكون شاذا بعد أن صاروا أغنياء وبعد أن أمضوا في الخارج سنوات طويلة تعوّدوا خلالها على حياة الترف، واكتسبوا بعض العادات التي تتعارض مع ذوق الناس في حضرموت. كما أن بعضهم أصبح لديه عدد من المتطلبات اليومية التي لا تتوافر هناك. وهذا يخص تحديدا القبائل الذين إن هم اختاروا البقاء عند عائلاتهم في حضرموت سيضطرون لترك القليل من الرخاء الذي اعتادوا عليه.
وقبل أن نختتم الحديث عن المعوقات الخاصة، ينبغي أن نشير إلى أن هناك في الأرخبيل الهندي عددا من العرب، ومنهم بعض المرموقين الذين ينتمون إلى الفئات العليا، الذين لديهم في حضرموت قضايا تمنعهم من وضع قدمهم فيها ثانية. وحينما تستمع إلى هؤلاء يبدو لك أنه ليس هناك أي شيء مقبول في بلادهم. وأعرف واحدا منهم يذهب بعيدا جدا في كيل هذا النوع من الشتائم في حق بلده. ولم أستطع أن أعرف بالتفصيل الجرم الذي أقترفه، لكن من الواضح أن جميع قبائل حضرموت قد نفته على الرغم من أنه سيد.
الهوامش:
1- يبرز هذا النص الذي كتِب سنة 1886 أن بذور الصراع الإرشادي- العلوي في إندونيسيا تعود في الحقيقة إلى القرن التاسع عشر.
Comments are Closed