جاكلين بيرن وجزيرة العرب 1+2

جاكلين بيرن ودورها في البحث عن تاريخ جزيرة العرب وآثارها
بقلم د. مسعود عمشوش
منذ بداية عصر النهضة الأوروبية في القرن الخامس عشر، شرع الأوروبيون في السفر داخل القارة الأوروبية وخارجها. فاتجه جزء منهم غرباً صوب الأمريكتين، وفضّل بعضهم الإبحار في اتجاه الشرق، لاسيما إلى البلدان التي تطل على السواحل الجنوبية والشرقية للبحر الأبيض المتوسط، ومنهم من واصل السفر في اتجاه الشرق الأقصى، ومن بين هؤلاء من توقف في موانئ الجزيرة العربية، وحاول بعض المغامرين الدخول إليها لزيارة مدنها أو استكشاف صحاريها.
فشبه الجزيرة العربية جذبت اهتمام كثير من الرحالة والحجاج والتجار والمغامرين والباحثين من مختلف أرجاء العالم، وذلك لما تمتلكه من مزايا دينية وجغرافية وحضارية واقتصادية. فهي مهد الرسل والديانات السماوية. وجعلها موقعها الجغرافي مركزا للطرق الرئيسة للتجارة في قلب العالم القديم، وفيها ظهر عدد من أشهر الحضارات في العالم. وإذا كانت اليوم تعد احد أهم مخازن النفط ففي الأمس كانت أهم مراكز تصدير البخور واللبان الذي تحتاجه المعابد في روما وأثينا.
ومن المعلوم أن معظم الرحالة الغربيين الذين زاروا الجزيرة العربية قد سجلوا ملاحظات عنها في دراسات أو كتب. ومنهم من قٌام خلال رحلته باقتناء عدد من المخطوطات العربية والقطع الأثرية ونقلها معه للغرب. وكثيرة هي تلك الكتب والدراسات التي ألفها الرحّالة الغربيون عن الجزيرة العربية. بعضهم كتب عنها بشكل عام، ومنهم من اكتفى بتناول جزء منها أو إحدى مدنها.
وهناك عدد من الغربيين الذين في سياق دراستهم للشرق قاموا أولا بقراءة مسحية لأكبر عدد من الكتابات التي ألفها من سبقهم من الغربيين في الكتابة عن الشرق أو عن جزء منه. ومن بين هؤلاء: الباحثة الفرنسية الباحثة جاكلين بيرن التي قضت معظم عمرها في دراسة تاريخ جنوب الجزيرة العربية وبعض مناطق القرن الإفريقي. وفي هذه الدراسة المتواضعة سنقوم أولا بالدور المهم الذي قامت به عالمة الآثار جاكلين بيرن في تنظيم أعمال التنقيب عن آثار مدينة شبوة القديمة ضمن البعثة الفرنسية اليمنية وذلك منذ منتصف سبعينيات الرقن الماضي. وفي الجزء الثاني سنقوم بقراءة تحليلية نقدية أهم كتبها: (اكتشاف جزيرة العرب: خمسة قرون من المغامرة والعلم).
أولا: جاكلين بيرن والتنقيب في شبوة
ولدت جاكلين بيرن عام 1918في (نوييي-سور-سين) إحدى ضواحي باريس. وتحصلت على شهادة الليسانس في الفلسفة من جامعة السوربون سنة 1939. وكان من زملاء دراستها في السوربون جان بول سارتر وصديقه بول نيزان مؤلف كتاب (عدن العربية). وبسبب اهتمامها بتاريخ الجزيرة العربية ولاسيما جنوبها شرعت في قراءة كل ما كتب عنها والتحقت بقسم الدراسات الشرقية في جامعة لوفان الفرنسية وتحصلت منه على ليسانس عام 1951. ومنذ عام 1957 وحتى وفاتها عام 1990 أصبحت مديرة بحث في المركز الفرنسي الوطني للبحث العلمي الذي فرغها للبحث الميداني في أثيوبيا وجنوب الجزيرة العربية. وخلال عقد السبعينات من القرن الماضي استقرت جاكلين بيرن في عدن وتحديدا في الهيئة العامة للآثار وقامت بتشكيل فريق علمي للتنقيب عن آثار مدينة شبوة عاصمة مملكة حضرموت.
ومن المعلوم أن اهتمام الأفراد والمؤسسات العلمية الغربية بمدينة شبوة القديمة قد بدأ منذ القرن التاسع عشر. وتسابق الرحالة والمستكشفون لإعادة تحديد موقعها اليوم. ويبدو أن الألماني هانس هيلفريتس هو أول من وصل إليها في عام 1935. وفي حين فشلت منافسته البريطانية فريا ستارك إلى الوصول إلى مدينة شبوة، نجح المستكشف البريطاني هاري سانت جون فيلبي المعروف بلقبه الحاج عبد الله فيلبي في الوصول إليها في نهاية عام 1936. (انظر كتابينا: حضرموت في كتابات فريا ستارك 2004، والمستكشف هاري سانت جون فيلبي ورحلته إلى حضرموت 2012، ودراستنا: صورة اليمن في كتابات هانس هيلفريتس في كتابنا صورة اليمن في كتابات الغربيين 2010).
وقد ضم الفريق الأثري الفرنسي-اليمني للتنقيب في مدينة شبوة عاصمة مملكة حضرموت عددا من العاملين في هيئة الآثار بعدن، وعلى رأسهم د.عزة علي عقيل ود.أحمد بن أحمد باطائع ود. محمد صالح بلعفير وخيران الزبيدي. وتوصلت البعثة منذ بدء حفرياتها الأثرية إلى نتائج علمية واكتشافات أثرية في غاية الأهمية، حيث أظهرت التنقيبات التي قامت بها أن المدينة كانت تضم عدداً لا بأس به من المباني وعدد من المعابد منها المعبد المكرس للإله (سين) والقصر الملكي الشهير (شقر) الذي ورد اسمه في النقوش الحميرية وعلى النقود الحضرمية، ويعود بناؤه إلى حوالى القرن الثالث ق. م. ودلت الرسوم الجدارية التي تم العثور عليها في بقايا القصر على أن الحضارة اليمنية القديمة أبعد ما تكون على الانغلاق وكانت على علاقة قوية في مجال الفنون مع الحضارة اليونانية والرومانية. وبينت تنقيبات البعثة في الموقع أن مدينة شبوة كانت الحاضرة الرئيسية لمملكة حضرموت ومركزا لإقامة الملوك، وكانت مدينة محصنة إذ يصل طول سورها الداخلي إلى 1500 متر، بينما يصل طول مجمل نظامها الدفاعي 4200م.
وبينت الحفريات التي قامت بها جاكلين بيرن وفريقها العلمي أن مملكة حضرموت القديمة قد شكلت بموقعها المطل على الطرق التجارية البرية والبحرية القديم ومينائها قنا حلقة وصل بين الشرق والغرب. وظلت أرضها تحتفظ بشواهد عدة تبين المستوى الحضاري والرخاء والازدهار الذي بلغته تلك المملكة في عصور ما قبل الميلاد. لذلك ليس غريبا أن يسعى عدد من علماء الآثار والتاريخ والمؤسسات العلمية المحلية والغربية إلى إرسال بعثات أثرية لدراسة آثار وتاريخ تلك المملكة.
كما أظهرت المعطيات الأثرية التي توصلت إليها الحفريات والبحوث والدراسات الميدانية التي أجريت في موقع المدينة المستوى الرفيع الذي وصلت اليه مدينة شبوة من غنى وازدهار في الفترة ما بين القرن الرابع قبل الميلاد. وحتى القرن الثالث الميلادي، وكذلك المستوى الهندسي والعمراني الرفيع، حيث بينت الحفريات أن مباني شبوة كانت تصل إلى عدة طوابق، وأن طريقة بنائها تتم على أساس من الحجر وترتفع على هيكل خشب محشو بالطين إلى عدة طوابق.
وكشفت الحفريات في شبوة عن آثار أخرى تعود الى أوائل الألف الأول قبل الميلاد، وتعطينا تصوراً كاملاً عن فترة تأسيس المدن القديمة أي في بداية الألف الأول ق. م، وكذلك الممالك والنظام السياسي والاجتماعي ونشأة الكتابة بخط المسند وتطورها في القرن الثامن قبل الميلاد وهو ما يتعارض مع بعض ما سبق أن ردده قبل ذلك بعض المؤرخين الذين لم يعتمدوا على الحفريات في أطروحاتهم.
وتجدر الإشارة إلى أن عددا آخر من الفرنسيين واصل أعمال التنقيب في شبوة؛ منهم فرانسوا بريتون ومنير عربش. وقد قامت الدكتورة عزة علي عقيل وفرانسوا بريتون بإعداد كتاب عن نتائج الحفريات في شبوة وتم نشره عام 1996.
ثانيا: قراءة في كتاب (اكتشاف جزيرة العرب: خمسة قرون من المغامرة والعلم) لجاكلين بيرن)
منذ نهاية القرن الثامن عشر اهتم عدد من الغربيين بدراسة الشرق. وفي إطار دراستهم للشرق قاموا أولا بقراءة مسحية لأكبر عدد من الكتابات التي ألفها من سبقهم من الغربيين عن الشرق أو عن جزء منه. ومن بين هؤلاء: فريا ستارك وفان در ميولن وجوزيف شلحود والباحثة الفرنسية الباحثة جاكلين بيرن، التي قضت معظم عمرها في دراسة تاريخ جنوب الجزيرة العربية، وبعض مناطق القرن الإفريقي، وتركت لنا نحو تسعمائة دراسة وكتاب ووثيقة عن جنوب الجزيرة العربية والجزيرة العربية بشكل عام. ومن أبرز مؤلفاتها كتابها الشهير: (اكتشاف جزيرة العرب؛ خمسة قرون من المغامرة والعلم)، الذي أصدرته سنة 1958، ونشر دار الكاتب العربي – بيروت ترجمة له عام 1963 بقلم قدري قلعجي. وعلى الرغم من أن معظم الذين تخصصوا في آثار الجزيرة العربية قد استفادوا كثيرا مما كتبته جاكلين بيرن لم يحظ كتابها (اكتشاف جزيرة العرب) –حسب علمي- باهتمام أحد من الكتاب العرب باستثناء الأستاذ السعودي حمد الجاسر الذي وضع مقدمة لترجمته العربية.
وعلى الرغم من الحجم الكبير للكتاب الذي يقع في 434ىصفحة، فالمؤلفة لم تتناول فيه إلا أولئك الرحالة الغربين الذين جاءوا إلى الجزيرة بين نهاية القرن الخامس عشر (1470) ونهاية القرن التاسع عشر (1870). لكنها، في الفصل الأول من الكتاب تستعرض بعض المصادر القديمة التي عاد إليها أولئك الرحالة الغربيون الرواد قبل أن يشرعوا في السفر الاستكشافي باتجاه الشرق؛ فهم حاولوا أولا التعرف على الشرق من خلال بعض كتب القدماء، التي تضم التوراة (سفر الملوك الذي يتحدث عن إخضاع مملكة سبأ لحكمه)، وكتابات عدد من الرومانيين القدماء، مثل المؤرخ بليني، والمؤلف المجهول الذي كتب (الطواف حول البحر الإرتيري أي البحر الأحمر).
ولأن موضوع رسالة الماجستير التي أعدتها جاكلين بيرن في جامعة لوفان كان عن (علاقة اليونان بمملكة سبأ)، فقد ضمنت بيرن الفصل الأول من الكتاب (رفع الستار من خلال كتب القدماء) معلومات غزيرة عما رواه اليونانيون القدماء عن جنوب الجزيرة، مثل المؤرخ هيرودوس الذي ولد وعاش في مصر في القرن الخامس قبل الميلاد، وكذلك المؤرخ اليوناني تيودور الذي تحدث بإسهاب عن الجزيرة العربية ولبانها وصبرها وبخورها وأغنامها الغريبة وثعابينها المجنحة، والقرفة والكافور.(ص28-29) ويمكن أن نشير هنا إلى أن بعض المؤرخين يلمسون انحيازا للحضارة اليونانية في كتابات جاكلين بيرن عند تناولها لمملكة سبأ، إذ أنها، بتأثير الفلسفة الوضعية التي نظـَّـر لها أوجست كونت، تميل إلى تعليل قيام حضارة جنوب الجزيرة العربية بالعناصر الكثيرة التي استمدتها من حضارات اليونانيين والفينيقيين. لكنها لم تشر إلى ذلك في كتابها الذي بين أيدينا: (اكتشاف جزيرة العرب: خمسة قرون من المغامرة والعلم).
ومما لا ريب فيه أن جاكلين بيرن كانت حريصة أن يحظى كتابها بأكبر عدد من القراء الغربيين. لهذا فهي لم تستهدف العلماء المتخصصين في الدراسات الشرقية، بل القراء بشكل عام. وقد دفعها ذلك إلى التركيز على جوانب المغامرة والإثارة في ما رواه الرحالة والمستكشفون الغربيون الرواد عن جزيرة العرب. وهذا ما يفسر العنوان الفرعي للكتاب: خمسة قرون من المغامرة والعلم. وقد أكد على هذه السمة للكتاب الأستاذ روبيرت سرجانت في السطور القليلة التي قدم بها الكتاب مجلة مدرسة الدراسات الشرقية والفريقية (المجلد 23 العدد الثاني، يونيو 1960، ص423).
وأولى مغامرة ترويها جاكلين بيرن في كتابها هي مغامرة البولوني لوديفيك دي فارتيما الذي جاء الى الجزيرة العربية وزار مكة بين سنة بين سنتي 1472 و1506. وقد بدأ دي فارتيما رحلته الشهيرة من البندقية سنة 1503 إلى القاهرة، ثم بيروت، فطرابلس، فحلب، فدمشق الذي تعلم فيها العربية، ثم المدينة المنورة فمكة المكرمة فجدة ثم جيزان، واندهش حينما رأى فيها عنبا وسفرجلا وتفاحا ورمانا وليمونا وبرتقالا وكميات وافرة من اللحم والحنطة والشعير والذرة البيضاء التي يصنع منها الأهالي خبزا ممتازا. ومن جيزان سافر إلى عدن فيه تم القبض عليه بتهمة أنه نصراني يتجسس لحساب البرتغاليين، وسيق في اليوم نفسه إلى قصر السلطان كي يعدم، ولكن تأخر تنفيذ الإعدام به لغياب السلطان فقبع في السجن طويلا، قبل أن يتمكن مجددا من نيل حريته ومواصلة رحلاته إلى عدد من المدن اليمنية، قبل أن يغادر إلى الهند ومنها إلى أوربا.
وفي الجزء الموسوم بـ (رواد المصادفة) تسرد جاكلين بيرن مغامرة الراهبين اليسوعيين مونصرات وبائز اللذين تم أسرهما في ظفار في مطلع القرن السادس عشر للميلاد، ومنها نقلا عبر وادي حضرموت ومارب إلى صنعاء. وفيها تمكنا من الفرار.
ومن الأمور الجديرة بالاهتمام في هذا الكتاب حقيقة أن جزءا كبيرا من هؤلاء الرحالة/المغامرين قدموا إلى الجزيرة العربية بإيعاز من الدول الغربية ذات الأطماع الاستعمارية كما هو الحال بالنسبة لدي فارتميا الذي في الحقيقة جاء إلى الجزيرة العربية بأمر من ملك البرتغال.
وتفرد بيرن فصلا كاملا للرحالة التي زاروا الجزيرة بتكليف من شركات الملاحة الغربية (الهولندية والبريطانية وفيما بعد الفرنسية) التي كانت حينها تتصارع فيما بينها. من بين هؤلاء القبطان دي لاروك الذي أرسلته شركة الملاحة الفرنسية إلى ميناء المخا لاستطلاع أماكن زرعة البن. ومع ذلك تقول جاكلين بيرن أن ذلك القبطان كانت له اهتمامات علمية. وترى أن رحلته إلى الشرق تؤرخ لبزوغ فجر الرحلات العلمية، لأنه نشر سنة 1706 ترجمة كتاب وصف جزيرة العرب لابي الفداء عن ترجمة لاتينية.
و تقدم المؤلفة في أطول فصول الكتاب: (كارستن نيبور النموذج الكامل للعالم دي النزعة الإنسانية ص146-180) الذي طلب منه أستاذه في جامعة غونتنغن الألمانية العالم ميخائيليس أن يلتحق بالبعثة الدنماركية إلى جنوبي بلاد العرب، فذهب إلى كوبنهاغن لمواصلة دراسته تأهباً للسفر. وقد مول الملك الدنماركي فريدريك الخامس الرحلة التي كان هدفها استكشاف البلدان المجهولة في الجزيرة العربية، وتولى فيها نيبور مهام الأرصاد الفلكية والجغرافية لغرض رسم الخرائط للمناطق المكتشفة وغيرها، وكان أميناً لصندوق الرحلة. وأبحرت البعثة عام 1761، فمرت في طريقها بالبوسفور فالقسطنطينية فالإسكندرية، ثم اليمن، وفيها أصيب بعض أعضائها بالملاريا، ومات فون هافن رئيس البعثة عالم اللسانيات، فترأس نيبور المجموعة، ثم مات السويدي فورسكال عالم الطبيعيات والنبات فأبحر الأربعة الباقون إلى بومباي، وقبل الوصول توفي في سومطرة باورنفيند الرسام والنقاش الألماني وبيرغرين الضابط السويدي، وفي بومباي توفي كارل كرامر طبيب البعثة الدنماركي عام 1764، فواصل نيبور اكتشافاته وحيداً. في عام 1765 قرر نيبور العودة إلى بلاده، فبعث مع أول باخرة تقصد لندن جميع الأوراق والتحقيقات والتقارير والخرائط التي جمعتها مجموعته للحفاظ عليها من الضياع والتلف، ثم غادر بومباي إلى بندر عباس ثم بوشهر، وفي طريق عودته دخل إلى العراق فزار أطلال آشور ونينوى وبابل وبرسيبوليس وغيرها، وزار قبرص ومدن ساحل بلاد الشام ثم دمشق واللاذقية، ومنها توجه إلى حلب فإصطنبول، حيث امتطى جواده عبر أوربا إلى أن وصل إلى كوبنهاغن في عام 1767، وتفرغ لنشر نتائج أبحاثه حتى تُوفي في ملدورف عام 1815. وكان لرحلة نيبور نتائج علمية مهمة، فقد كان أول من كشف عن الخط اليمني المسند، ووصفه وصفاً علمياً ساعد على جلاء غموضه. كما رسم نيبور خرائط لعدد من المناطق والمدن التي زارها كاليمن والعراق وإمارات الخليج العربي ودمشق والقدس ووصف عادات أهلها وأحوالهم المعاشية والاجتماعية، وبعض هذه الخرائط يستفاد منها إلى هذا اليوم. ونشر نيبور نتائج رحلته في عدة كتب ومقالات، كان أهمها: «وصف بلاد العرب» عام 1772، و«أخبار السفر في بلاد العرب وما جاورها» في مجلدين، ونُشر مجلد ثالث بعد موته، وقد نشر نيبور كتاب فورسكال في وصف حيوانات مصر وبلاد العرب ونباتاتها وأزهارها مصحوباً بالصور.
وتكرس جاكلين بيرن فصلا آخر من كتابها للرحالة الذين زاروا المدن المقدسة (مكة والمدينة) بوصفهم حجاجا. من هؤلاء: والإنجليزي (جوزف بيتس دكستير) الذي قدم إلى مكة المكرمة في نهايات القرن السابع عشر. ويزعم أن اختطف قرصانا جزائريا اختطفه سنة 1678 وهو في الخامسة عشرة من عمره، ثم باعه إلى ضابط من الخيالة قرر أن يجعل منه مسلما، فاصطحبه إلى الأماكن المقدسة بعد ذلك، وهناك اعتقه من الرق. وقد تمكن دكستير بعد عناء من العودة إلى بلاده ونشر قصته في عام 1704.
وفي الفصل الموسوم بـ(المنافسة بين شركات الهند ص72)، تتناول جاكلين بيرن من التفصيل رحلة القبطان الهولندي فان دن بروكه الذي أرسله سلطان بنتام في مستعمرات جزر الهند الشرقية ليستطلع موانئ الجزيرة العربية في مطلع القرن السابع عشر للميلاد. وبعد أن استقبله حاكم عدن العثماني بحفاوة توجه إلى مدينة، وذكر أنها كانت المينا الرئيس لحضرموت، لكن السلطان يقيم في [داخل] مدينة حضرموت. وكتب يصف السكان قائلا “إنهم ذوو استقامة ولطف، يحبون مصادقة الغير، ومتواضعون، وذوو طبيعة هادئة، ومؤمنون إيمانا ثابتا برسالة النبي محمد. ونساء الطبقة العليا محجبات وشديدات الإغراء، جميلات المحيا، ورشيقات القوام. ويقبل أهلهن بتزويجهن من الغرباء مقابل قليل من المال وهن في سن مبكرة”ص79
وفي رحلته الثانية إلى الجزيرة العربية سنة 1616، زار دي بروكه الحاكم التركي في صنعاء. وقدم وصفا شيقا لأسوارها وأبراجها ومساجدها وحماماتها التركية، “حيث يغتسل فيها الرجال أولا قبل ظهر الشفق، ثم تغتسل النساء من بعدهم. ولاحظ أن الحركة التجارية كانت نشطة في المدينة، ويقوم بها البانيان والهنود والفرس واليهود، وأن النساء محجبات ترافقهن الإماء العديدات، كما هي الحال في تركيا. وهؤلاء الإماء جلهن من المسيحيات اللواتي يختطفهن الأتراك من أنحاء الشرق, وبهذه الطريقة عمرت هذه البلاد” 83-84
أما الرحالة الأخير الذي تتناوله جاكلين بيرن في كتابها فهو البارون الألماني أدولف فون فريده الذي التحق بخدمة ملك اليونان: أوتون. وقد لخصت بيرن أهم ما جاء في مذكرات هذا المغامر الذي تؤكد أنه أول من توغل في المناطق الداخلية من حضرموت في نهاية شهر يونيو من عام 1943، قائلة: “أراد فون فريده أن يجرب حظه بالتزيي بزي مسلم، والتظاهر بالرغبة في الحج إلى قبر هود، نبي حضرموت الشهير، الذي كان قد اتخذه له نصيرا فأسمى نفسه: عبد الهود. وقد وصل فعلا إلى وادي دوعن ووصف مشارفه على النحو الآتي: “إن النزول إلى الوادي خطر، لاسيما عند فوهته، حيث يساير الطريق الذي لا يتجاوز عرضه أربعة أقدام في أماكن كثرة هوة هائلة إلى اليمين والجانب الصخري إلى الشمال. ويدعى هذا الوادي الأول: وادي دوعن”.ص395 ويذكر فريده أنه بلغ وادي عمد وزار المدينة التي تحمل الاسم نفسه. وزار مدينة الحوطة، ثم اتجه غربا وسار مشيا على القادم أربعة أيام حينما بلغ منطقة (صوا؟؟)، “وأصبح على مسيرة يوم واحد من صحراء البحر السافي. وكتب “يستمد هذا القسم من الصحراء اسمه من الملك السافي الذي انطلق على رأس جيشه من بلاد سبأ وواديان ورأس الغول، وأراد اجتياز هذا القفر فهلك جيشه. وكان الناس يزعمون أن فيه أماكن كثيرة يختفي فيها كل شيء عن سطح الأرض ويغور في الرمال… وقد أسرعت في اليوم التالي للتأكد من هذه المزاعم. وبلغت حد الصحراء بعد مسيرة ست ساعات، وهي سهل فسيح من الرمال يقدر انخفاضها عن النجد بألف قدم. وتكومت في بعض أجزائه تلال من الرمال كالأمواج بدت لناظري كالبحر المضطرب، ولم نرَ فيها أي نبات أو طير يقطع بشدوه صمت الموت الذي كان يخيم على قبور الجيش السبئي. ورأيت ثلاثة أماكن امتازت ببياضها الناصع، وقد قال لي رفاقي البدو: هذا هو البحر السافي. إن هذه الهوة السحيقة تسكنها الجن التي غطت الكنوز المودعة في حراستها بالرمل الخداع، ولا شك في أن من يجسر على الدنو منها تجتذبه الرمال فلا تذهب إليها! ومن الطبيعي أنني لم أعر هذه النصيحة أي اهتمام”. وعبثا حاول فريده أن يقنع مرشديه بالتقدم معه إلى الأمام. ويضيف “لذا قررت الذهاب إليها وحدي مخاطرا بنفسي، حاملا معي مسبرا يزن نصف كيلو جرام ربطت إليه حبلا رفيع طوله ستون باعا. وبأقصى ما يمكن من الحذر اقتربت من الرمال الدقيقة جدا، وقذفت لمسبري ابعد ما أمكنني فأختفي في الحال، وقد تضاءلت سرعة اختفاء الحبل شيئا فشيئا إلا أنه بعد انقضاء خمس دقائق اختفى تماما”!!(ص397)
وعلى الرغم من جاكلين بيرن لم تتناول في كتابها هذا الرحلات التي قام بها الغربيون إلى حضرموت في القرن العشرين فهي تضمنه الملاحظات التي أوردها الجغرافي فايسمان وفان در ميولن في كتابهما (حضرموت وإزاحة النقاب عن غموضها). وبعد أن يفسر ميولن ما قاله فريده بشأن أطراف صحراء الربع الخالي بشكل علمي يقول: “استطعنا في الوقت نفسه تدقيق الأقسام الأخرى من رحلته إلى صيف ووادي دوعن، وهو أبعد نقطه بلغها إلى الشمال وإلى وادي حجر، ووجدنا أن وصفه للبلاد حسن وصحيح، ورأينا في فون فريده رائد حضرموت الكبير”ص401.
وينبغي أن نشير هنا إلى جاكلين بيرن قد أعطت للفصل الرابع من كتابها هذا العنوان: (العربية القفراء والعربية البتراء). وتناولت فيه رحلة الأسباني (علي بك في مكة والوهابيون الأول)، ثم رحلتي البريطاني ستيرن وبوركهارت إلى وسط الجزيرة العربية. وبما أن السعودي حمد الجاسر قد أسهب في الحديث عن الفصل في مقدمته للكتاب (ص5-16)، فلن نتناوله هنا.
وفي هذه المقدمة تناول الأستاذ حمد الجاسر جانب الإثارة في كتاب بيرن قائلا” “لا أدري أيؤخذ قارئ هذا الكتاب – كما أخذت – بوضوح تصويره نماذح من مغامرات عدد غير قليل من الرحالة الراغبين، ممن استهوتهم جزيرة العرب بسحرها، فهاموا في قفارها، سعيا وراء المجهول من أخبارها، حتى أصبحت سيرهم وأخبار رحلاتهم جزءا من أساطير تلك الجزيرة، في غرابتها واستهوائها للباحثين؟ ولكنني لا أشك بأنه سيستمتع حقا بما أبرزه هذا الكتاب من حياة بعض أولئك الرواد، وبما تميزت به تلك الحياة –بنوع خاص من التضحية، والاستهانة بكل مشقة، في سبيل الوصول إلى نتائج عادت بفوائد جمة على كل باحث في تاريخ الجزيرة، ودارس لأحوال سكانها، بصرف النظر عن بواعث السعي للوصول إليها”.
ثم يعود حمد الجابر لأهمية الجانب العلمي لتلك الرحلات الأولى قائلا: “لا يحتاج القارئ إلى السير معه في ثنايا الكتاب ليدرك الجوانب المهمة من نتائج تلك الرحلات؛ كالكشف عن آثار آثار الحضارة العربية القديمة في جنوبي الجزيرة، والوصول إلى حل رموز الأبجدية الحميرية (خط المسند) حلا أضاف معلومات جيدة عن حلقة كانت مجهولة لدى العرب أنفسهم، من تاريخ ذلك الجزء من بلادهم”. ص8
ومن اللافت أن حمد الجاسر، الذي كرس جزءا كبيرا من المقدمة للإشادة بالمستشرقين ودورهم في تحقيق المخطوطات العربية بدقة ومنهجية علمية، وكذلك في اكتشاف كثيرا من آثار الجزيرة العربية، صنف الرحالة والمستكشفين المغامرين الرواد الذين تناولتهم جاكلين بيرين ضمن المستشرقين. وفي الواقع لم يكن أحد منهم مستشرقا فعلا. وقد اختتم الأستاذ حمد الجاسر المقدمة قائلا “إن القارئ العربي كثيرا ما تعتريه حالة من الريبة والشك حيال كتابات الغربيين عن العرب، وهي حالة مع منافاتها للحكمة العربية القديمة (الحكمة ضالة المؤمن يلتقطها حيث وجدها)، لا تتفق مع المنطق القويم في شيء، فالحق يجب قبوله أيا كان مصدره، والباطل لا يتوقف رفضه على معرفة مصدره، وأولئك –بحكم بعدهم عنـّا، وجهلهم لأحوالنا في الماضي- تشوب كتاباتهم عنا أخطاء لا ينبغي أن تكون حائلا بيننا وبين المعرفة، بل الأجدر بها أن تكون من الحوافز التي تدفعنا إلى معرفة كل ما يكتب عن بلادنا وتاريخنا، لنقبل الحق وننتفع به، وننفي الزيف ونأباه”.ص16
ونحن هنا نتفق تماما مع حمد الجاسر، ونرى أن ما دونه المستكشفون والرحالة الغربيون حول جزيرة العرب بين عام 1470 و1870 يعد ذا قيمة علمية مهمة. لكن، لكي نستفيد منها فعلا وكما ينبغي، علينا العودة إلى نصوص أولئك الرحالة وتحليلها وقراءتها وترجمتها. فنحن مقتنعون تمام أن كثيرا من سلبياتنا لا يمكن أن نكتشفها إلا من خلال عيون الآخر. وكذلك هويتنا، لا نستطيع أن ندركها كما يجب إلا من خلال اكتشافنا لاختلافنا وتميزنا عن ذلك الآخر.
ومن المؤكد أن عددا كبيرا من الباحثين والمترجمين في المملكة العربية السعود وعمان واليمن قد تنبهوا إلى هذه الحقيقة، وشرعوا – خلال العقدين الماضيين، في دراسة أو ترجمة عدد من تلك الكتابات التي أشارت إليها جاكلين بيرن في كتابها (اكتشاف جزير العرب..). ومن المؤسف أن كثيرا من كتابات الغربيين عن جزيرة العرب التي لم تذكرها جاكلين بيرن في كتابها لم تحظ حتى اليوم باهتمام الباحثين والمترجمين العرب. وفي اعتقادنا أن على المؤسسات والمراكز البحثية العربية أن تبادر هي بنفسها للقيام بمسح كل ما كتب عن بلاد العرب في الغرب والشرق ودراسته وترجمة ما يستحق أن يطلع عليه أبناء العروبة.
Comments are Closed