موقع ثقافي تعليمي

الترجمة الأدبية في اليمن

د. مسعود عمشوش 2006
تمهيد: الترجمة والأدب المقارن، الأصل والفرع؟
العلاقة بين الأدب المقارن والترجمة علاقة معقدة، فالأدب المقارن بمختلف مدارسه واتجاهاته يرى أن الترجمة واحد من أهم ميادينه، ومع ذلك فقد اختتمت سوزان باسنيت – أستاذة دراسات الترجمة في جامعة لندن – كتابها «الأدب المقارن، مقدمة نقدية، صـ181» بفصل اسمته: «من الأدب المقارن الى دراسات الترجمة»، ودعت في نهايته الى جعل الأدب المقارن تابعا لدراسات الترجمة وليس العكس، إذ تقول: «لقد ولت أيام عظمة الأدب المقارن بوصفه دراسة أكاديمية، وغيرت أبحاث المثاقفة التي أجريت في إطار دراسات المرأة ونظرية ما بعد الاستعمار والدراسات الثقافية وجه الدراسات الأدبية بصفة عامة، وينبغي علينا من الآن فصاعدا أن ننظر الى دراسات الترجمة بوصفها الدراسة الاكاديمية الرئيسية والى الأدب المقارن بوصفه فرعا قيما من مجالات الدراسة بها».

أولاً: إشكالية الترجمة الأدبية
واليوم تعاني الترجمة الأدبية من أزمة لا تقل في مستواها عن أزمة الأدب المقارن، وسأحاول هنا -وبإيجاز شديد- تسليط الضوء على بعض جوانب تلك الأزمة التي تنبع أساسا من غياب نظرية واحدة للترجمة الأدبية؛ إذ أن كل من اشتغل في حقل الترجمة الأدبية وضع لنفسه نظرية خاصة به، لذلك من الصعب أن مفاهيم موحدة يجمع عليها النقاد والأدباء واللغويون والشعراء، ونتج عن ذلك تعدد ترجمة النص الأدبي الواحد، وفي معظم الاحيان يبرز النص الأدبي المترجم مختلفا بدرجة صغيرة أو كبيرة عن النص الأصلي.
واليوم هناك نظرتان تقليديتان رئيستان في مجال الترجمة الأدبية: الأولى تؤكد على إمكانية ترجمة النصوص الشعرية وتؤمن بها، وتبرز أهميتها في إثراء الأدب القومي، والأخرى ترى أن ترجمة الأدب، لا سيما الشعر، أمرٌ غير ممكن. فالفيلسوف الألماني ارثر شوبنهاور، مثلا، لا يؤمن إطلاقا بإمكانية الترجمة الأدبية وخصوصا الشعر ويقول: “لا يمكن للشعر أن يترجم، لكن يمكن إعادة كتابته وهذا الأمرفي حد ذاته عمل محفوف بالمخاطر”. ومثله يعتقد جون درايدن – الذي كتب دراسة عن “أمراض الترجمة، – أنه ليس هناك من يستطيع أن يترجم الشعر. وقد عبر درايدن عن رأيه هذا بعد أن أمضى وقتا طويلا في ترجمة أعمال الأديب الإيطالي تشاوسر إلى الانجليزية الحديثة، وهي الترجمة التي لم تحظ بإقبال كبير. وينظر انتوني بيرمان الترجمة الأدبية من زاوية أخرى، فهو يعتقد أن المترجم يعيد في الحقيقة كتابة النص الأصلي، لذلك فهو يمكن أن يعد مؤلفا للنص المترجم، والنص المترجم يتضمن ابعادا إبداعية يجب أن تلصق بالمترجم مباشرة، ويبدو أن بيرمان يشير هنا إلى عملية إعادة إنتاج النص في الترجمة التي من خلالها يولد عمل جديد. ويذهب بعض نقاد الأدب إلى أبعد من ذلك ويتهم كل من يترجم نصا أدبيا بالخيانة، أما بمحاولته تقريب المؤلف إلى مستوى القارئ أو رفع القارئ الى مستوى المؤلف، ففي الحالة الأولى يخون المترجم العمل الأدبي وفي الحالة الثانية يجعل لغته تبدو أجنبية، فالخيانة حتمية في كلا الحالتين× والترجمة تبقى في أزمتها. وفي اعتقادنا تعد إعادة خلق النص الشعري في نظام لغوي آخر مغامرة محفوفة بكثير من المحاذير – كما يقول درايدن – والترجمة الأدبية بوجه عام تفقد النص جزءاً من أدبيته نتيجة سفره عبر منظومتين لغويتين مختلفتين، ويعمل المترجم الحصيف على تقليص كم الطاقة المهذرة قدر إمكانه، ولذلك – برأيي – لا تتم ترجمة الشعر بنجاح إلا عبر شاعر رفيع في لغته الأصل، وينبغي التنبه أن النص الذي ينتجه هذا المترجم الشاعر يمكن أن يكون ترجمة ويمكن ان يكون ابداعا جديدا يتناص بشكل ما مع النص الذي حاول ان يترجمه، فالسحر والروعة اللذان تشعر بهما مثلا عند قراءة «هاملت» بالإنجليزية لا يكمنان في المعاني أو الأحداث أو الافكار فقط، بل هناك شيء ما يغلفها جميعا ويقولبها ولا تستقيم دونه، اللغة نفسها، كيف كان لشكسبير أن يبث فيك سحره لولا لغته بتركيبها ونظامها ودلالاتها وأصواتها وكذلك السياق؟ ومهما حاول المترجم واجتهد، فإنه لا بد أن يخون النص الاصلي، فانت عندما تقارن النص الأصلي والترجمة، لا تجد القوة نفسها والعمق نفسه، ومن الطبيعي أن تشعر بوجود شيء ناقص كنت قد أحسست به في النص الأصلي، ومهما امتلك المترجم من زمام لغته ولغة النص الأصلي، فهو لا يستطيع انتاج الروح نفسها، وهناك أشياء في عملية التواصل اللغوي – والأدبي منه بشكل خاص – لا تنتقل مع الترجمة، وبما أن عملية الترجمة بين اللغتين احتوت على فقدان ما ينتقص من كمالها، هناك خيانة، الترجمة لا يمكن أن تنقل ذلك السحر بسبب أبعاد النص من سياقه الأصلي، فهناك فقدان حتمي لا مفر منه، وهذا الفقدان يمكن أن يبرر مقولة أن أي ترجمة هي بالضرورة خيانة، ويمكن أن أشير هناك الى أن علم الترجمة يقر بعدم وجود “التكافؤ المطلق في الترجمة الأدبية” ويقع تعويضه بمفهوم “التقارب” أو “التعادل النسبي” أو الديناميكي.
ثانيا: الترجمة الأدبية في اليمن .. البدايات
تعود بداية حركة الترجمة الأدبية الحديثة في العالم العربي بشكل عام الى منتصف القرن التاسع عشر، وقد ترجمت منذ ذلك الحين أعمال كثيرة من الآداب الاوروبية، وشرع بطبيعة الحال بتعريب الأدب الفرنسي بحكم الروابط الوثيقة التي كانت قائمة مع فرنسا، فقد توجه أوائل الطلاب الموفدين من محمد علي الى باريس ولي الى لندن أو برلين.
وفيما يخص اليمن يذكر عبدالفتاح الحكيمي في كتابه “النقد الأدبي والمعارك القلمية في اليمن” أن الإنجليز الذين كانوا يسعون إلى نشر ثقافتهم في المستعمرات قد أسسوا في مطلع الاربعينيات من القرن الماضي في عدن “مكتبا خاصا يقوم بترجمة ونشر العديد من المؤلفات والدراسات الانجليزية”. وقد تم تعيين ستيوارت بيراون مديرا له وفريا ستارك نائبة له. وعُيّن علي محمد علي لقمان مترجما ومذيعا في المكتب، وكلف بترجمة عدد من قصائد ووردز وورث من اللغة الإنجليزية إلى اللغة العربية قام بترجمة لبث روح الولاء لبريطانيا في بداية الحرب العالمية الثانية، وقد أكدت فريا ستارك في فصل خاص بتلك القصائد في كتابها (الشرق هو الغرب) أن الترجمة نشرة في كتاب صدر في الفين نسخة نفذت جميعها في أقل من شهر. (انظر ترجمة الفصل في كتابنا: اليمن في كتابات فريا ستارك). ومما لا شك فيه أن حركة الترجمة بشكل عام والترجمة الأدبية بشكل خاص قد بدأت تنشط في اليمن وتحديداً في عدن منذ تلك الفترة، وقد قامت كل من صحيفة “فتاة الجزيرة” ومجلة “المستقبل” بدور متميز في تلك البدايات. ففي تلك الفترة نشرت مقالتان في صحيفة فتاة الجزيرة، تحت عنوان واحد هو :«التعاون الثقافي العالمي، المقالة الأولى هي الافتتاحية التي كتبها رئيس التحرير محمد علي لقمان لأحد اعداد عام 1943، ويؤكد فيها ضرورة الاهتمام بعملية التثاقف بين الشعوب، وذلك لكي “تغتني ثقافة شعب معين من ثقافة شعب آخر، ويصبح التبادل الثقافي عاملاً جوهرياً في تقريب الناس وجدانيا”.
ودعا كاتب المقالة الى «نبذ مشاعر التعصب القومي التي من أبرز نتائجها الانغلاق الثقافي والاجتماعي واحياء المشاعر العدائية بين الناس»، وفي المقالة الأخرى يميز كاتبها – الشاعر – محمد عبده غانم بين التعاون الثقافي العالمي وبين الوحدة الثقافية العالمية، ويرى أن بالأماكن قيام تعاون ثقافي بين مختلف شعوب العالم، لكنه يؤكد استحالة تحقيق وحدة بين جميع الثقافات في العالم، ويرى أن مثل هذه الوحدة “تسلب الأمم شخصياتها كما يسلب النظام الاجتماعي الفرد شخصيته”.
في مجال الشعر:
يشير الدكتور عبدالعزيز المقالح في بداية اطروحته عن “الأبعاد الموضوعية والفنية لحركة الشعر المعاصر في اليمن، دار العودة 1974م صـ 393 إلى تأثير الشعر العربي الحديث في نشأة الشعر المعاصر في اليمن، قائلاً :”إذا كان الشعر العربي المعاصر قد اكتسب معاصرته وجدته من بعث القديم ومن التأثر بالآداب العالمية المعاصرة وما تزخر به من أنواع أدبية خارج القصيدة الغنائية، فإن الشعر في اليمن – وهو رافد صغير من روافد الشعر العربي – لم يكتسب معاصرته وجدته سوى عن طريق الشعر العربي المعاصر نفسه» ويضيف :«وإذا كان عدد من الشعراء في اليمن، وفي جنوب البلاد خاصة قد ألموا الماما جيدا باللغة الانجليزية نتيجة لوجود الاحتلال البريطاني في عدن فإن أحداً منهم لم يقم بترجمة أي عمل أدبي ولم يتأثر أي منهم بالشعر الانجليزي وظل تأثرهم مقصوراً على الشعر العربي ومدارسه المختلفة»، ومع ذلك يرصد الدكتور عبدالعزيز المقالح منذ تلك الفترة بعض المحاولات التي يقوم بها بعض الشعراء اليمنيين للاقتراب من الشعر الاجنبي بشكل مباشر، فهو يقول «وفي المرحلة الأخيرة عندما بدأ الشعر في هذا القطر يأنس في نفسه القدرة على الانطلاق وبدأ ابناؤه من الشعراء يشعرون بواجب المشاركة في إثراء القصيدة العربية، اقبل القادرون منهم على بعض الترجمات وأخذت اهتماماتهم الأولية تؤتي ثمارها و بدأت من حين الى آخر تظهر بعض الترجمات الشعرية لقصائد شعراء عالميين أمثال ناظم حكمت ولوركا وماوتسي تونغ واليوت وغيرهم» الأبعاد الموضوعية والفنية لحركة الشعر المعاصر في اليمن «صـ393».
وفي عام 2007، أصدر الأستاذ الدكتور حيدر محمد غيلان كتابا رائدا ومهما بعنوان (بواكير الأدب المقارن في اليمن ومتطلبات النهضة الثقافية”، قام فيه برصد كثير من المقالات والنصوص الشعرية التي ظهرت في الصحف العدنية قبل الاستقلال.
في مجال النقد
وفي مجال النقد الأدبي يبدو أن عبدالرحيم لقمان وحامد لقمان هم أكثر من مارس الترجمة منذ مطلع الاربعينيات من القرن الماضي، فبعد عشر سنوات من نشر كتاب «الأبعاد الموضوعية والفنية لحركة الشعر المعاصر في اليمن» اصدر الدكتور عبدالعزيز المقالح كتابا عن «أوليات النقد الأدبي في اليمن 1939م – 1948م، دار العودة بيروت 1984م» تناول فيه بالتحليل محتوى بعض الصحف والمجلات اليمنية التي صدرت في تلك الفترة.
ولاحظ أن من أبرز المحاور التي تضمنتها مجلة «فتاة الجزيرة» منذ بداية صدورها في عدن عام 1940م «خواطر وانطباعات عن الأدباء العالميين، شكسبير واليوت ورودزورث وسومرست موم وليو تولستي وطاغور» صـ 67.
ويتساءل المقالح عن مدى حجم الأبعاد الترجمية في ما كتب من نقد أدبي في تلك المجلات والصحف التي كانت تنشر في عدن في الاربعينيات من القرن الماضي قائلاً: منذ بدأت في رصد المعطيات الأولى في النقد الأدبي في جنوب الوطن وجدتني أعاني من حيرة عظيمة تمنعني من الاقتراب من تلك المحاولات النقدية التي تتناول بالتفسير والتحليل أعمال بعض كبار الكتاب والشعراء العالميين أمثال تولستوي وشكسبير ووردزورث وبايرون وكييتس وشلي والاخوات برونتي وطاغور وغيرهم، فهي وأن كانت مكتوبة بأقلام يمنية وتشكل جهدا نقديا في تقييم آداب الأمم الأخرى، إلا أن أسئلة كثيرة تراود الباحث لا عن القيمة النقدية لهذه المحاولات في حد ذاتها، وإنما عن المدى الذي لعبته الترجمة والنقل الحرفي مما قد يجعلها جزءاً من حركة الترجمة وليس جزءاً من الحركة النقدية اليمنية في بداية تكوينها، وبما أن هدفنا هنا يختلف عن هدف الاستاذ عبدالعزيز المقالح الذي كان في دراسته يبحث عن أوليات النقد في اليمن، فإننا نرى في تلك الفترة المقالات ما يؤكد انفتاح الأدباء اليمنيين في عدن في تلك على الآداب الاجنبية وهذا ما يؤكده الاستاذ المقالح نفسه في كتابه، فهو بعد أن استعرض مقالة نشرها الناقد عبدالرحيم لقمان في العدد السابع والعشرين من مجلة «فتاة الجزيرة 1941م» يستنتج ان تلك المقالة «تؤكد العمق النسبي في ثقافة صاحبها واطلاعه الواسع على الآداب العربية والاجنبية، مما يبشر بظهور مشروع ناقد على قدر كبير من الفهم لضرورة الابداع والتنظير» صـ82.
ونتيجة لذلك اضطر الأستاذ عبدالعزيز المقالح أن يقف أمام بعض ملامح العناصر المكونة لثقافة الأديب اليمني في جنوب اليمن في تلك الفترة رأى أنها “ثقافة أسهمت اللغة الانجليزية فيها بدور واضح سواء على مستوى الابداع أو على مستوى توصيف الابداع، وهي لذلك ثقافة مزيج من التأثر بالأدب الانجليزي والأدب العربي القديم والحديث، وذلك ما كان يخالف عليه الحال في شمال الوطن حيث كانت الثقافة العربية التقليدية هي حجر الزاوية والى حد ما الثقافة العربية المعاصرة”.

Comments are Closed