موقع ثقافي تعليمي

عبد الله فاضل مترجما

(الأستاذ عبد الله فاضل فارع مترجما) د.مسعود عمشوش
(أولا) – ترجمات عبد الله فاضل فارع:
كان الأستاذ عبد الله فاضل فارع عاشقا للغات، وضليعا في اللغة العربية واللغة الإنجليزية. فهو قد نال شهادة الثانوية عام 1946، بعد أن خضع للامتحان الذي كانت جامعة كامبريدج تنظمه دورياً في المستعمرة البريطانية عدن. وقد أكد أن مستوى خريجي الثانوية في اللغتين الإنجليزية والعربية كان، في تلك الأيام، رفيعا. وهو ما مكنه من التفوق في دراسته في الجامعة الأمريكية بالقاهرة التي التحق بها سنة 1948.

وفي العام الأخير من دراسته هناك حضّر رسالة حول (التفسيرات المتباينة لفلسفة عمر الخيام). وخلال إعداده لتلك الدراسة قرأ مختلف الترجمات العربية لرباعيات عمر الخيام، وقام بترجمة اثنتي عشر رباعية منها عن اللغة الإنجليزية، ونشرها في صحيفة (المستقبل) العدنية عام 1952، أي وهو في السادسة والعشرين من عمره.
وفي نهاية الخمسينيات من القرن الماضي، قام الأستاذ عبد الله فاضل فارع بتدريس اللغة الإنجليزية بالمعهد الفني بالمعلا. ثم عيّن، في مطلع الستينيات، مدرسا للغة العربية في المدرسة الثانوية للبنين. وكان أيضا يستطيع القراءة باللغتين الفرنسية والأسبانية. وقد كتب، رحمه الله، في نهاية دراسته لمجموعة قصص هيمنجواي (رجال بلا نساء): “وبتعدد ما يحسن المرء من لغات يتسع أفقا، ويجني ذوقا متجددا، ويزداد قدرةً على فهم قيم الحياة والاعتزاز بها”.ص81
وفي نهاية ستينيات القرن الماضي، وتحديدا في عام 1969، أصدرت (سلسلة مسرحيات عالمية) الكويتية ترجمة أنجزها عبد الله فاضل فارع لمسرحية (ندكيلي أو عسكر ولصوص)، للكاتب الاسترالي دجلس ستيوارت. وفي تونس نُشرِت له ترجمة لمسرحية أسترالية أخرى بعنوان (ما آن الأوان).
وفي مطلع السبعينيات من القرن الماضي، تفاعل الأستاذ عبد الله فاضل فارع، الذي كان يشغل منصب عميد كلية التربية العليا، ثم مدير عام التعليم العالي في وزارة التربية والتعليم، مثل كثير من المثقفين والأدباء العرب مع المد اليساري الذي برز في عدد من الأقطار العربية حينذاك، وشرع يترجم جملةً من الدراسات المتعلقة بالاتحاد السوفييتي، وذلك عن اللغة الإنجليزية وليس اللغة الروسية. وقد نشر تلك الترجمات في مجلة (الحكمة) التي يصدرها اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين. ومن المعلوم أن الأستاذ عبد الله فاضل فارع كان أول رئيس للاتحاد. وفي عام 1973 كان أيضا سكرتير مجلة (الحكمة).
ففي العدد (22، 1974) من مجلة (الحكمة)، مثلا، نشر الأستاذ عبد الله فاضل ترجمة بعنوان (رسائل متبادلة بين ماركس وأنجلز)، تتناول آراء الرجلين حول العرب والعبرانيين. وفي العدد (26)، نشر ترجمة لدراسة للناقد السوفييتي الونيف أصلانوف عن (الشاعر الأذربيجاني النسيمي). وفي العدد (29)، نشر دراسة بعنوان (عظمة بوشكين: بين أدبه وتقييم النقاد)، ضمنها ترجمة لآراء عددٍ من الكتاب الروس –مثل دوستوفيسكي وجوجول-، والكتّاب السوفييت –مثل نشارسكي- حول الأديب الروسي بوشكين (1809-1852).
وخلال فترة عمله في المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم في تونس، أشرف الأستاذ عبد الله فاضل على مكتب إدارة الترجمة الذي أصدر كتابا في جزئين عن (واقع الترجمة في الوطن العربي)، و (دليل المترجمين العرب). وكان حينئذ يقوم بترجمة ما يصدر عن المنظمة إلى اللغة الإنجليزية ردا على بعض الادعاءات المغرضة ضد الثقافة العربية. وبعد تقاعده من وزارة الخارجية وتعيينه مستشارا لرئيس جامعة عدن عام 1992، انتدب لتدريس مادة (نصوص باللغة الإنجليزية) في قسم اللغة العربية بكلية التربية عدن، ومساقي (تاريخ الترجمة) و(الترجمة التطبيقية) في مركز الدراسات الإنجليزية والترجمة بجامعة عدن.
وقد كان الأستاذ عبد الله فاضل -رحمه الله- أبا وزميلا عزيزا لنا في هيئة تحرير مجلة (التواصل)، التي تصدر عن نيابة الدراسات العليا والبحث العلمي – جامعة عدن، والتي تُعنَى بشئون الترجمة. وكان يصرّ على إعادة نشر بعض ترجماته بسبب الأخطاء الطباعية البسيطة التي تبرز فيها. وبعد أن نشرت له المجلة ترجمات لعدد من أشعار الهايكو اليابانية والقصص الأسترالية القصيرة، قررت هيئة التحرير، سنة 2005، نشر ترجمته لأهم مجموعة قصصية ألفها الكاتب الأمريكي إرنست هيمنجواي: (رجال بلا نساء). وعلى الرغم من أن هذه الترجمة تشكل كتاب التواصل رقم (2)، فهي لم تصدر إلا في عام 2007، بعد ظهور كتاب التواصل رقم (3): (أقاصيص يمنية مترجمة) في سنة 2006، وذلك لأن المترجم عبد الله فاضل لا يمل من التصويب والتصحيح والتنقيح. وكان – رحمه الله- يسعى إلى بلوغ نوعٍ صعب المنال من الأناقة والإتقان، كيلا نقول الكمال.) انظر نموذجا من التصويبات التي أدخلها على مخطوطة ترجمته لكتاب اليمن: رحلات المتيَّم المهووس في بلاد القاموس، الملحق رقم 1).
(ثانيا)-عبد الله فاضل و(رجال بلا نساء):
من المسلم به أن الترجمة أداة مهمة للتعارف بين الأمم، وتعزيز العلاقات الثقافية بينها. وقد أدرك كثيرٌ من المترجمين العرب مكانة قصص وروايات هيمنجواي، الذي منح جائزة نوبل في الأدب عام 1954، منذ منتصف القرن الماضي. وقد تميّز هيمنجواي، بأسلوبه السهل الممتنع؛ فهو من رواد الأسلوب الواقعيّ الذي حرّر الكتابة الأدبيّة الإنجليزيّة من التراكيب المعقّدة، والمفردات الصعبة والنادرة والحوشيّة والأنيقة، وانتقل بها إلى الألفاظ البسيطة والتعبيرات الواضحة.
ويتحدّث عبد الله فاضل عن افتتانه الشديد بقصص هيمنجواي منذ كان طالباً بالجامعة الأمريكية في القاهرة قائلا في خاتمة دراسته لقصص هيمنجواي: “بدأت قراءة ما كتب هيمنجواي من قصص قصيرة منذ أواخر الأربعينات، مع بدء التحاقي بالجامعة الأمريكية في القاهرة في أثناء دراسة مقرر: الحياة الأمريكية في أعمال أدبائها. قرأت حينئذ مجموعة رجال بلا نساء. وكم مرة ختمتها ثم أعدتها، وانطلقت من قراءتها المعادة إلى غيرها بقلم مؤلفها؛ ومنذ ذلك الحين راودتني ترجمتها ترجمة تقترب من روح الأسلوب المميز لها. وودت أن تتاح لقارئها أن يتذوقها تذوقه لها لو قرأها بلغتها المترجم عنها، فيغرى بها مترجمة ليقرأها أصلا رجاءً إلى أن تكون سبيلا إلى الاستفادة بتحصيل لغة جديدة ينطلق بها إلى قراءة أدب هيمنجواي: وكل لسان في الحقيقة إنسان”.ص81
وقد كان الأستاذ عبد الله فاضل يدرك تماما أن الترجمة لا تتطلَّب إتقان اللغتين: المنقول منها وإليها، فحسب، وإنما تتطلَّب كذلك الكفاية الأدبية والثقافية التي تتمثل في قدرة المترجِم على معرفة الأساليب الأدبية التي كتب بها النصّ الأصل، ومقدرته على مضاهاتها في اللغة الهدف. وكذلك إلمام المترجِم بالسياق الاجتماعي والثقافي للنصّ الأصل والسياق التاريخي لكتابته. لهذا فهو – في الحقيقة- لم يكتف في كتاب التواصل (2) بتقديم ترجمة لمجموعة (رجال بلا نساء). فالصفحات التسعون الأولى من الكتاب- الذي يقع في 315 صفحة من الحجم المتوسط، تحتوي ترجمة قصيرة لسيرة إرنست هيمنجواي، ودراسة نقدية طويلة (تقع في 55 صفحة) لقصص المجموعة ألفها الأستاذ عبد الله فاضل نفسه. ويقول بتواضع في مطلع هذه الدراسة: «تقتصر هذه المقدمة على مجرد استعراض للقصص التي يحويها جلدا هذا الكتاب. هي محاولة للإلماع إلى إيضاح تلك الظروف التي واكبت كل قصة؛ كبداية نشرها تاريخا ومظنة. وشرح بعض ما فيها من تعابير قد يبدو فيه غموض من حيث المصطلح المستعمل حين نشرها، ثم مقدار أهميتها بالنسبة لعلاقتها في مجموعتها هذه أو ببعض أعمال هيمنجواي الأخرى. وما قد يكون نشأ عنها من عمل فني آخر في السينما أو التلفزيون”.ص39
ولا شك أن رغبة عبد الله فاضل في البحث عن طريقة للمزاوجة بين الأمانة لمحتوى النص الأصل، وبين الرغبة في إعادة إنتاج أسلوب هيمنجواي وخصوصيته، في لغة عربية صافية وسلسة، قد شكلت تحديا آخر جعله يؤجِّل نشر ترجمة هذه المجموعة القصصية لفترة طويلة.
وفي اعتقادي، تتميز ترجمة عبد الله فاضل فارع لقصص هيمنجواي القصيرة، (وكذلك في ترجماته الأخرى)، بهاجس الأمانة والدقة، وتوظيف لغة عربية فصيحة ورفيعة، بما في ذلك الكلمات الجزلة، التي لن يستوعبها –اليوم- بعض القراء العرب غير المتخصصين في اللغة العربية.
مثلا، ترجم عبد الله فاضل الفقرة الآتية (من قصة: تحقيق بسيط)
“The sunlight came in through the window, and shone on a map on the pin-board wall of the hut. The sun was high and the light came over the top of the snow”.
على النحو الآتي: “وكان نور الشمس يتسرب من خلال النافذة، ويشع على خارطة مثبتة على جدار الكوخ المنشأ من ألواح الصنوبر. كانت الشمس على سمت عال من السماء، وكان النور ينفذ من فوق مستوى ارتفاع الثلج”. ص 237
بينما ترجمها الفلسطيني سمير عزت نصار عام 1992، على النحو الآتي:
“تسللت أشعة الشمس خلال النافذة، وتألق نورها على خريطة معلقة على جدار الكوخ المصنوع من خشب الصنوبر. كانت الشمس عالية وهبط النور على قمة الثلج”. 139
وفي القصة القصيرة نفسها ترجم الأستاذ عبد الله فاضل الجملة الآتية:
Outside, the snow was higher than the windows.””
على النحو الآتي: “بلغ الثلج في الخارج ما يربو على مصاف النافذة”، بينما ترجمها سمير عزت نصار قائلا: “في الخارج كان الثلج أعلى من النافذة”.
ويبرز حرص الأستاذ عبد الله فاضل فارع على استخدام لغة دقيقة ورفيعة، حتى في ترجمته للحوار. هذا ما نلمسه مثلا في هذه السطور الأولى من ترجمة قصة (الذي لم يغلب): “صعد مانويل غارسيا الدرجات المؤدية إلى مكتب دون ميغل ريتانا. حط حقيبة ملابسه وقرع الباب. ولم يكن من مجيب. وفي أثناء ما كان مانويل واقفا في الدهليز أنتابه إحساس أن الغرفة كانت مأهولة. نفذ إليه ذلك الإحساس من خلال الباب. فصاح مناديا: يا ريتانا! ثم أصاخ السمع. ولم يكن من مجيب.
فقال مانويل في نفسه: حسنا أنه في الداخل على أية حال.
وصاح مناديا: يا ريتانا! وأخذ يخبط الباب.
فرد مجيب من داخل المكتب يقول: من الطارق؟
فرد مانويل: إنه أنا مانويل.
فتساءل الصوت: ماذا تريد؟
وأجاب مانويل: أريد أن أزاول عملا…”ص95
وهذا النص الأصل:
Maria Garcia climbed the stairs to Don Miguel Retana’s office. He set down his suitcase and knocked the door. There was no answer. Manuel, standing in the hallway, felt there was someone in the room. He felt it throw the door.
-Retana, he said, listening.
There was no answer.
He’s there, all right, Manuel, thought.
-Retana, he said and banged the door.
-Who’s there? Said someone in the office.
-Me, Manolo, Manuel said.
-What do you want? Asked the voice.
-I want to work, Manuel said. P.6
وقد ترجم سمير عزت نصار تلك الفقرات عل النحو الآتي:
(ارتقى مانويل جارسيا الدرج إلى مكتب دون ميجويل ريتانا. وضع حقيبته على الأرض وطرق الباب. لم يصدر أي جواب. أحس مانويل، وهو يقف في الممر، بأن في الغرفة شخصا ما. أحس بهذا من خلال الباب.
قال، مصغيا: “ريتانا”. لم يصدر أي جواب.
فكر مانويلا: إنه هناك، بلا شك.
قال: “ريتانا”، وخبط الباب.
قال شخص في المكتب: “من هناك؟”
قال مانويل: “أنا مانويل”.
سأل الصوت: “ماذا تريد؟”
قال مانويل: “أريد عملا”.
ولتسليط مزيد من الضوء على ترجمة عبد الله فاضل فارع لمجموعة هيمنجواي شجعنا إحدى الطالبات المقيدات في برنامج الماجستير في مركز عبد الله فاضل فارع للدراسات الإنجليزية والترجمة على تكريس رسالة الماجستير لدراسة (ترجمة الإضمار في مجموعة ارنست هيمنجواي (رجال بلا نساء): دراسة مقارنة بين ترجمة سمير عزت نصار وترجمة عبد الله فاضل فارع).
وبعد، نتمنى أن تحظى ترجمة الأستاذ عبد الله فاضل لمجموعة (رجال بلا نساء) باهتمام طلبته وزملائه المدرسين. فهي أنموذج نادر للترجمات التي تجمع بين جزالة اللغة التي تشترطها دور بعض الطباعة لنشر النصوص المترجمة، وبين الأمانة والدقة العلمية التي لا نهتم بها عادة إلا في الترجمات العلمية أو “المدرسية”.

Comments are Closed