أيامي في مدرسة القرن
Posted by:مسعود عمشوش | نوفمبر 1, 2015
بقلم مسعود عمشوش
بعد أن فقدت المرحومة سعدية بن مزروع -التي يُعَد والدي ابن عمتها- زوجها وسافر ابنها الأكبر عوض إلى بلاد السواحل في نهاية الخمسينيات من القرن العشرين، اختارت أن تعيش، بجوارنا، في حي القرن بسيؤن. وكانت تزورنا بين الحين والأخر برفقة ابنها ربيع وبنتها زهراء. وفي مساء أحد أيام شهر أكتوبر من عام 1962 حضر الثلاثة لزياتنا والمبيت معنا. وفي الصباح هيأت سعدية ولدها ربيع -الذي كان يكبرني بعام واحد- للذهاب للدراسة في مدرسة القرن الأهلية التي فتحت قبل أكثر من عام بجهود أهالي الحي وعلى راسهم أستاذي الأول الشهيد المناضل محمود سالم صقران الذي عًيّن أول مدير للمدرسة.
على الرغم من أن أبي، الذي كان يجهل القراءة والكتابة، يحلم أن يكون له ولد يتقن القراءة مثلما كان والده يتقنها، فهو لم يبادر إلى إلحاق أخي سالم الذي كان في السابعة من العمر ويكبرني بعامين، بهذه المدرسة، إذ أنه لا يستطيع الاستغناء عن سالم في الصباح لأنه كان يساعده في أعمال الزراعة، وتركه يتردد على (علمة بلغيث) وقت الظهيرة. لكن عندما طلبتُ منه أن يسمح لي بالذهاب للمدرسة مع ربيع لم يرفض، فقد كنت صغيرا جدا ولم أتجاوز بعد الخامسة، وغير مفيد في المزرعة. لذا قال لربيع: “اصبر، أنا با شلكم للعلمة”.
توفيرا للوقت قادنا أبي عبر ثلاثة بساتين (حيوط)، كثيرة الخضرة قليلة البيوت، إلى دار علي السقاف (البكّاي) الذي يقع على بعد نصف كيلومتر من مزرعة (نفيسة)، في هذه الدار كانت مدرسة القرن قد اختارت -لبضعة أشهر- غرفة مربعة لتعليم نحو ثلاثين طالبا ينتمون للمستوى والأول والروضة. وعند باب الغرفة وقف أبي ونادى المعلم عمر باكثير (عمر معلّم) وحدثه عن رغبته في إلحاقي بالمدرسة لعلي أصبح قاضيا مثل مسعود بارجاء الذي أعطاني اسمه، وشرح له (عمر معلم) أنّ عليه أن يدفع شلنين في الشهر وأن يشتري لي (نظير وفُطْلُطْ) أي كراسة وقلم رصاص.
***
عند نهاية العام الدراسي الأول انتقلنا للدراسة في بيت المرحوم سالم بارمادة الواقع وسط القرن. لكن في مطلع العام الدراسي التالي (1963/1964) انتقلت المدرسة بكل صفوفها إلى مبناها الجديد الواقع في سفح الجبل، شرقي حصن الفلس. وقد تم تشييده بواسطة مبادرات أبناء الحي ودعم مالي سخي قدمه المرحوم الحاج سالم عبيد باحبيشي، الذي كان قد تزوج في الحي. ولرفد ميزانية المدرسة افتتحت اللجنة المشرفة عليها (مشروع مياه القرن)، واشترت شاحنة (قلاب زيزو)، قام يسار الجبهة القومية بتأميمها في نهاية عام 1968.
في مطلع ذلك العام الدراسي (1963/1964) اقتنع والدي بإلحاق أخي سالم بالمدرسة، وقد تمّ قبوله في المستوى الثاني مباشرة، إذ أنه استفاد كثيرا من (علمة بلغيث)، وقد ظلّ طوال وجوده في مدرسة القرن يتنافس هو وسالم فرج بافرج على المرتبة الأولى في جميع الامتحانات والمستويات. وللأمانة كان الأثنان أهدأ طالبين في الصف. بينما كنت أنا وعبادي (عبد الله) السبايا وزيد فرقز -رحمة الله عليهما- من أكثر التلاميذ إزعاجا، وكنا دائما نتأخر عن الحصة الثالثة بما أن وقت الاستراحة لا يكفينا للتنقيب عن كميات كافية من البطاطا في البساتين المجاورة. وكانت ملابسنا متسخة باستمرار، ولا نسمح أبدا لأحد منا أن يلبس شميزا ناصع البياض أو كامل الأزرار.
لا أتذكر شيئا مهما في سنتي الثانية بمدرسة القرن غير حصص الجغرافيا التي تعلمنا فيها رسم خرائط للبيوت وواجهاتها، والبحث عن الكنز في الجبل المطل على المدرسة. وأتذكر أيضا الطابور الصباحي والحفل الأسبوعي الذي ينظم كل يوم خميس بعد الحصة الثالثة. ومن أبرز أساتذتي الأجلاء في تلك السنة أتذكر عبد الكريم عبّود وميم السقاف (محمد عبد الرحمن السقاف) الذي كان يحتفظ بعدد لا بأس به من العصي.. لمن عصا.
وعندما انتقلت، في العام الدراسي التالي، إلى المستوى الثالث، جرت حوادث مهمة كثيرة. فبعد فترة قصيرة من بدء العام الدراسي، تقلص فجأةَ عدد التلاميذ في الصف. فبعد أن كنا نحو سبعة وثلاثين تلميذا وجدنا أنفسنا أقل من عشرين؛ والسبب هو أن عددا كبيرا من السكان الذكور في حي القرن (الأيدي العاملة) اختاروا الهجرة برا إلى المملكة العربية السعودية، وقد سهّل هذه الموجة الجماعية للكبار والصغار وصول عدد كبير من سيارات النقل (الونيت) السعودية إلى سيؤن. وكنا نشاهدها تجيء وتروح طوال العام 1964، وقد اتخذت من ساحة (جروب الحسن) محطة لها. بالنسبة لأبي، لم يرض أن يسافر أحد من أبنائه الخمسة إلى الحجاز. وقد سبق لأبناء أخواله، آل بن مزروع، أن حاولوا قبل نحو عشر سنوات اقناعه بالسماح لابنه الأكبر، أخي يسلم، أن يسافر معهم إلى ممباسا، لكنه، بعد أن وافق واستخرج له جوازا تراجع ورفض سفره. وخير ما فعل؛ فقد تزامنت موجة الهجرة الجماعية إلى السعودية مع العودة الإجبارية لآلاف المهاجرين الحضارم من شرق إفريقيا وإندونيسيا (جاوة).
وقد استقر في حي القرن عدد من العائلات العائدة من المهجر الشرقي في جاوة، ومن السواحل الشرقية لإفريقيا. لهذا، بعد أن حرمتني الهجرة من عدد من أصدقاء الطفولة، مثل صالح ناصر سلمي وعامر مجرش وسعيد واحمد البكيري وراضي ومطران باسعيدة، صار لدي أصدقاء (سواحليين) مثل أحمد خميس عبدون وأخيه جمعان وصالح سلمان باصالح وأخوانه علي وعوض وربيع. وكلهم من مواليد سواحل افريقيا. وفي ذلك العام عاد أيضا من السواحل صالح بن مزروع، شقيق سعدية بن مزروع وولدها عوض. وقد التحق صالح بالعمل في البنك لأنه كان يتقن اللغة الإنجليزية، أما عوض فقد التحق بمدرسة القرن. وانتقل ابن عمي، علي عبود عمشوش، مباشرة من دار السلام في كينيا إلى جدة بالمملكة العربية السعودية.
وفي مطلع ذلك العام طلب مني المرحوم مرعي مرسال، الذي كان مشرفا على فندق السلام
، التابع للسِّيت، أن أبيع له الآيسكريم (ابو العود أو المُصّه) الذي كان يحضّره في ثلاجات الفندق. ولمدة شهر كنت آخذ منه علبة الآيسكريم وأذهب بها بعد عصر كل يوم إلى المنازل المجاورة لـ(نفيسة)، وفي الحقيقة كنت أبيع كل محتوى العلبة لعائلة آل الزبيدي التي عادت من أندونيسيا. وكانوا كلهم (مولدين) لا يتقنون العربية، وقد طلبت مني الفتيات أن أحضر لهن السجاير بدلا من الآيسكريم. وعلمني الأولاد سياقة الدراجة الهوائية مقابل منحهم الآيسكريم مجانا. وبعد أن زاد عدد الآيسكريمات التي كنت أقول إنها.. (ذابت) سارع المرحوم مرعي مرسال بطردي من المهنة!
وفي بداية ذلك العام الدراسي طُلِبَ منا أن نشتري نسخا من القرآن لقراءته في المدرسة وفي الحزب، في مسجد محمد بن عمر أو مسجد عمر حيمد، بعد مغرب كل يوم. وبعد أن وشى بي بعض أصدقائي عند المدير وأخبروه أنني لم أختن بعد ولا يجوز لي أن أقتني القرآن، أرسل المدير إلى أبي من يخبره أن عليه أن يختن لابنه. لهذا في ظهر اليوم التالي، مسك أبي بيدي وأخذني إلى غربي سور بئر السعادة، وهناك كان بانتظارنا جارنا علي بافطيم وابنه سعيد والختان الذي قام بالمهمة لي ولسعيد، في أقل من ثلاث دقائق. لم تكن عملية الختان مزعجة في حد ذاتها، لكن المشكلة أنه كان عليَّ أن أسمح لعدد كبير من المتطفلين والمتطفلات مشاهدة ختاني! وقد نجحت في نهاية الأسبوع الأول من هذه العملية الكبرى أن أجمع نحو عشرين شلنا؛ اشتريت منها كرة بلاستيكية ونسخة من القرآن الكريم كلفني تجليدها ثلاثة شلنات ونصف.
في المستوى الرابع (1965-1966)، قام محمود سالم صقران بتدريسنا بعض أجزاء من مادة اللغة العربية، لاسيما مادة الخط، وكان يلزمنا بنسخ كتاب المطالعة في المنزل، ويتابع قراءتنا للقرآن دون مصحف أثناء (الحزب) في مسجد عمر حيمد. وقد تحسَّن خطي بشكل سريع بما أنني كنت أمارس الكتابة بشكل يومي، إذ أن كثيرا من نساء الحي فضلن الاستعانة بي -لجهلي وصغر سني على ما يبدو- للكتابة إلى أزواجهن في المهجر. وفي الحقيقة لم يكنّ يترددن في إجباري على كتابة أشياء مخجلة حقا، إلى درجة أن والدتي -رحمة الله عليها- فضلت عدم الجلوس معنا عندما تأتي إحدى الجارات لأكتب لها (خط) إلى السعودية.
وفي مطلع عام 1966، ألف الأستاذ محمود سالم صقران مسرحية شعرية بعنوان (ثورة شعب)، واختارني لتمثيل دور الطالب فيها. وبوصفه مديرا للمدرسة استطاع أن يستقطب للتدريس فيها وفي صفوف محو الأمية في حي القرن، اثنين من أبرز المناضلين: عوض باعباد والفنان القدير علوي سالم مولى الدويلة الذي كلف أيضا بالإشراف على المجلات الحائطية.
وفي الاحتفال بعيد جلوس السلطان حسين بن علي الكثيري في ذلك العام شاركت مدرستنا في عدد من المسابقات الثقافية والرياضية التي نُظمت في ساحة مسجد الجامع أمام قصر السلطان، وقد تم اختياري في فريق لعبة كرة العميان التي فزنا فيها على فريق (المدرسة الحكومية).
في نهاية العام الدراسي (1965/1966) كان على تلاميذ المستوى الرابع ابتدائي في مدارس سيؤن الأربع أن يجلسوا للامتحان في مبنى هذه (المدرسة الحكومية) التي تقع حاليا وسط سوق سيؤن، خلف مبنى إدارة الاتصالات وإدارة البلدية. وفي مطلع العام الدراسي التالي (1966/1967) تم الإعلان عن أسماء التلاميذ العشرة الذين قُبلوا -من مدرسة القرن- لمواصلة الدراسة في المستوى الأول في المدرسة الوسطى بسيؤن. وكان اسمي واحدا منها.
Comments are Closed