موقع ثقافي تعليمي

أيامي في مدرسة النهضة

بقلم مسعود عمشوش

في مطلع العام الدراسي 1974/1975، زرت عدن مرتين؛ مرة لأتكرّم ضمن أوائل الثانوية العامة في أول عيد للعلم في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، والمرة الثانية للبحث عن منحة، أو الالتحاق بكلية التربية العليا، إذ أن الرئيس سالمين كان حينها قد طلب من الأستاذ سعيد عبد الخير النوبان، الذي كان يقوم بأعمال وزير التربية والتعليم، إلحاق جميع خريجي الثانوية العامة لذلك العام بكليتي التربية (عدن والمكلا)، بالقوة، وذلك لحل مشكلة نقص المدرسين.

وبما أن الوزارة وافقت – في النهاية- على ابتعاث أوائل الجمهورية للدراسة في الخارج في العام التالي، عدت إلى سيؤن مع بعض الزملاء، فوق سُطحة (زيزو) سعيد جروان، عبر الطريق الصحراوي (الداخلي). وقد قضينا نحو أسبوع في الطريق؛ وكانت الساعات التي قضيناها في (دهف) السيارة، التي لم تكف عن الغرق في الغرق، وحمل (البتر)، والبحث عن حطب للطباخة، أطول بكثير من الساعات التي قضيناها فوق (سُطحة) السيارة!
وفي سيؤن، في انتظار المنحة، كان عليَّ أن أمضي عاما في الخدمة الوطنية، أي في التدريس بدون راتب. وقد عينني مكتب التربية- سيؤن ، أولا، في المدرسة الإعدادية في قسم. وحينما ذهبت إلى هناك اكتشفت أن المدرسين يعيشون في عزبة، وكل واحد منهم يدفع مبلغ عشرين دينار تكاليف الأكل والسكن. وعليه رجعت إلى سيؤن وأخبرتهم أنه لا يمكنني تحمل نفقات العزبة، وبالتالي البقاء في قسم، فنقلوني إلى إعدادية حوطة أحمد بن زين. لكن الأستاذ أحمد بن صافي، الله يرحمه، توسّط لي وقال: “ما دامك الأول في الجمهورية، رُح مدرسة النهضة، وخلّي عيالنا كلهم أوائل
وفي صباح اليوم التالي: ذهبت إلى مدرسة النهضة وسط سيؤن، وعندما دخلت من البوابة الرئيسة، كان أستاذي ميم السقاف، مدير المدرسة، والأستاذ محبوب فرج أمان النائب السياسي، وبعض المدرسين قد أخرجوا التلاميذ من عدد من الصفوف، وشرعوا في إملاء نص معيّن عليهم، بهدف اكتشاف تلميذ كتب شتائم ضد مدير المدرسة في ورقة وعلقها على أحد الجدران. وأشركوني بالطبع في عملية التحقيق: كان علينا أن نكتشف الطالب الذي يكتب كلمة (اللجنة) بلام واحدة. والمصيبة أن 90% من الطلبة كتبوها بلام واحدة؛ ربما ليس من قبيل الخطأ، بل رغبةً في التضامن والتمويه!

وبعد أن اكتشف زملائي المدرسون في المدرسة انضمامي إليهم، سارعوا جميعا في كتابة طلبات إعفاء من التدريس في المستوى السادس، الذي كان حينها المستوى الأخير من المرحلة الإعدادية، أي أن إدارة التربية هي التي تقوم بامتحان تلاميذه في نهاية العام. وقد قبل المدير طلبات الجميع وتم تكليفي بتدريس معظم مواد المستوى السادس: لغة عربية ولغة إنجليزية وتربية إسلامية، وتربية فنية وتربية وطنية ….الخ. وفوق ذلك كلفوني بتدريس الرياضيات في المستوى الخامس.
بالإضافة إلى ميم السقاف ومحبوب فرج أمان، كان من بين زملائي، أعضاء هيئة التدريس في مدرسة النهضة: حبشي السقاف، وعلوي السقاف (الكاتلي)، وسالم مصطفى السقاف، وطه السقاف (رباعي)، ومحمد بن بصري الذي كان يرفض استلام المرتب من الحكومة التي جعلت مدرسة النهضة مؤسسة حكومية. وكان عدد المدرسين المعينين في مدرسة النهضة كبيرا جدا، لكني لم أكن أرى بعضهم إلا في ليالي الأنس و(العِشيات) الجميلة، التي يحرص على تنظيمها علوي الكاتلي في حوش آل بن جديد في (علم بدر)، شهريا.
وكان عدد من المدرسين (مشغول عن التدريس) باجتماعات المنظمة القاعدية، أو بصلاة الجنازة في مسجد طه، والمساجد الأخرى التي تقع بجوار المدرسة. وربما أنهم استخدموا الاجتماعات الحزبية وصلاة الجنازة ذريعة للخروج لشراء الخضار من السوق، إذا أنهم، عند عودتهم قبيل جرس الانصراف، كثيرا ما يقدمون لنا حزما طازجة من البقل.
وكان المدير ميم السقاف يعقد لنا اجتماعات أسبوعية، وكان الزميل علوي الكاتلي يقدم لنا خلالها فناجين الشاي والبقل. أما الزميل محمد بن بصري، فكان يحرص أن يقدم لي في كل اجتماع آخر القصائد التي كان يكتبها باللغة الإنجليزية. وإذا لم تخني الذاكرة يقول في مطلع إحداها: (Twinkle twinkle, Little star, for your heart I say a pray) ، وقد تذكرت تلك القصائد حينما أهداني صديقي محمد قبل سنوات، ديونه (لمن يغني العصفور؟).
وسرعان ما تبيّن لي أن كثيرا من طلبة المستوى السادس كانوا جيراني أو أصدقائي؛ منهم: يحيى واكد وخالد المساوى وخالد سالم مصطفى السقاف، وعبد الله برك بالطيور، وعدنان علي السقاف، ومحفوظ بكار، وهود أبوبكر السقاف، وجاري مبارك سعد الذي أكدت لي أمي أننا، أنا وهو، ولدنا في الليلة نفسها، وكان بين تلاميذي من هو أكبر مني سنا. وفي الصفوف الدنيا تعرفت على حبشي بن عقيل ومجموعة من التلاميذ الذي لم يسمحوا يوما لأي مدرس أن يكمل معهم الحصة بسلام.

ومنذ أيامي الأولى تبيّن لي أن معظم التلاميذ كانوا يمارسون الشغب المتطرف مع جميع المدرسين، وهو ما دفع زملائي المدرسين رفض التدريس في المستوى السادس. وكان ميم السقاف لا يزال حينها يمارس الضرب في المدرسة، وسبق أن ضربني يوما حينما كان يدرسني في مدرسة القرن.
بالنسبة لي، لم أكن أتحمل الفوضى في الصف، لكني أرفض مبدئيا ضرب التلاميذ، ومع ذلك فقد اضطررت، في أحد أيامي الأولى في المدرسة، أن أصفع أحدهم في وجهه، ففقد وعيه وأخذته في سيارة أجرة إلى المستشفى، لكنه استفاق، وعاد كما كان قبل وصولنا المستشفى.
وفي الحقيقة، كنت ألتقي بكثير من تلاميذي عند شباك سينما سيئون وحول طاولة البينج بونج في مقر اتحاد الطلبة، وفوق (ساس) ساقية البلاد (شارع الجزائر)، أمام مكتبة الشهيد. وكانوا يعرفون تماما أنني مسافر للدراسة في الخارج، وقبلوا أن نكوّن معا فرقة للتمثيل، وقمت بكتابة مسرحية لم يجزها الأستاذ المؤرخ جعفر السقاف، مدير مكتب الثقافة ورئيس لجنة النصوص حينها، إلا بعد أن أجبرني على تعديلها مرات عدة. وقد مثلناها في عيد المدرسة، وفي الرحلة التي قمنا بها إلى مدينة ساه.
وفي شهر مايو من عام 1975، أشعرت أن وزارة التربية والتعليم قد رشحتني مع للدراسة في فرنسا. واستدعيت إلى عدن لاستكمال إجراءات الترشيح والسفر. ولحسن الحظ كنت قد أكملت المنهج الدراسي في جميع المواد. وغادرت مدرسة النهضة ولم أدخلها مرة أخرى منذ شهر مايو 1975. وقد بلغني أن من بين تلاميذي من برزت أسماؤهم ضمن الأوائل في امتحانات شهادة المرحلة الإعدادية ذلك العام. فتحيةً لجميع من قابلتهم في مدرسة النهضة، أحياءً كانوا أو أمواتا: تحية لمحمد بن صافي وميم السقاف ومحمد بن بصري وعلوي الكاتلي ومحبوب أمان وخالد المساوى مبارك سعد، وتلميذي السابق وزميلي الأستاذ الدكتور عبد الله برك بالطيور.

Comments are Closed