قصتان قصيرتان لسماح بادبيان
Posted by:مسعود عمشوش | أكتوبر 31, 2015
1- إرهاب
للقاصة سماح بادبيان -عضو نادي السرد-عدن
وقفَ تحتَ ظلِ شجرةٍ كبيرةٍ ، يتأملُ ما حولهُ بهدوء…
الساعةُ العاشرة:
شمس الضحى تُلوِّحُ المباني بلونها الذهبيّ الساطع وتنشرُ الظلال في كل مكان، أصوات العصافير المغردة تصدح في الأرجاء، متنقلةً من غصنٍ لآخر ناشرة أجنحتها بأمان.
(لابد وإن يكون خالد ونشوان في قاعة الكلية الآن , هل حجزا لي مقعداً ككل يوم , أم تنازلا به لأحدٍ بعد تأخري , سيختلقان الأعذار للمدرس لتبرير غيابي ..ولكن لا يهم بعد الآن شيء؛ روحي التي تمشي على الأرض سترتقي قريباً إلى السماء , ستحلّق بين أشجار الجنان ..!)
الساعة العاشرة والنصف:
تعالت أصوات مجموعة من الصبية قادمين للعب بالكرة , حتى طغت على زقزقات العصافير وهديل الحمام التي اتخذت من بعض الثغور في المباني الأثرية أعشاشاً لها.
ضحكاتُهم الطفولية أنعشتْ قلبهُ , فتبسَّم لمرآهم ,أنتابهُ حنينٌ إلى ركل الكرة معهم , عشراتُ الأهداف سجلها قبلاً مع فريق مدرسته الثانوي , عادتْ به أفكاره إلى واقعه الآن, هو ليس للعب هنا , أهدافه هذه المرة في مرمىً آخر ..لم تعد أهدفُهُ ألعاباً تنتهي بالضحك والمرح ..!
(أنا لا أحملُ همَّ فريقٍ يلعبُ , بل همَّ أمةٍ تتعب)!
اقتربَ بلطفٍ ..يطلبُ منهم اللعب في مكانٍ آخر ..(هذا المكانُ خَطِر)
رفض الصبية الانصياع لكلامه, وأصروا على المكوث للعب هنا :
– هذا مكاننا ..وكل يوم نلعب هنا فلماذا اليوم تصرفنا ؟؟
أدهشته كلماتهم !!
لم يخبره أحد أن أطفالاً يلعبون هنا كل يوم , هل غاب الأمر عنهم ؟ أم تغافلوه في تخطيطهم؟!
شعر بالضيق ينتابه مع استمرار الصبية في العناد ..فقد هدوء أعصابه فصرخ في وجوههم مهدداً ..وامتدتْ يدهُ تلْطُمُ أقربَهُم منه , حتى فروا من أمامهِ مذعورين ..
الساعة الحادية عشر :
جبينهُ يتفصَّدُ بالعرق الغزير, دقات قلبه تضطرب ,يتلفَّت بعصبية مراقباً المكان , الساحة خالية إلا من الطيور المحلقة هنا وهناك, تأمَّل البنايات الأثرية الماثلة أمامه, حجارتها القديمة صامدةٌ بثبات, تتحدى العصور التي مرت بها , تختصر قصة حياة أناس عاشوا في قرون خلَتْ هنا , رسمتْ سواعدهم ملامحَ الحياة في كلمتي العزم والأمل .!
التقطتْ حواسُّهُ المُتَّقِدة صوتَ طقطقةٍ منتظمةٍ على الأرض ,حوَّل أنظارهُ إلى البوابة الحديدية ..أصابعُ يديه تتقلَّصان في توتر ..ودقَّات قلبه تزداد اضطرابا ..تعبثُ بمشاعرهِ المتخبِّطة بين الخوف والإصرار .
(هل أقبلوا ..أحان وقت الارتقاء والرحيل .؟)
دقائقٌ تفْصِلُهُ عن لحظات البداية الجديدة التي رُسِمتْ لحياتِهِ بريشةِ غيره ..سيحملُ روحَهُ بين كفّيه ..ويرفعها في سلَّم البطولة لترتقي عليه.
اقتربَ الصوتُ أكثر تحفزتْ كل خلايا جسده للحظة الاندثار والتشرذم..
وإذ بشيخ يظهر أمام الباب , متكئاً على عصاهُ يمشي الهوينى ..طقطقةُ عصاه على الأرض تُرسل لحناً حزيناً ..يرسُمُ في الذاكرة ملامح أنثوية خطّتْ تعابيرها يدُ السنين فرسمت أخاديد تتدفق منها أنهار الحب والحنان .
جلس الشيخ على المقعد الحجري تحت ظل إحدى الأشجار ..ملامحه هو الآخر تحكي قصة إنسان حاز الدنيا يوماً بين يديه ثم تردَّى متخلياً عن كل شيء .!
تنهدَ بعمقٍ ..ووضع يده على صدره ليوقف اضطراب دقات قلبه المتفاقمة بعنف ..
وسار بخطى وهو يحاول تصنُّع الهدوء فيها , حتى وقف بقامته الرفيعة أمام الشيخ وقال :
– غادر المكان الآن يا جدي ..فالمكان خطر .
لم تتغير ملامح الشيخ الهادئة ..فقط رفع عينيه ببطء يتفرَّس في ملامحه الشابة ..وأسفرتْ شفتيه عن ابتسامة سعيدة , وكأن ما تناهى إلى مسامعه لم يكن إلاّ طُرْفة من زمن الشباب ..أنعشت ذاكرته بالحنين لفترة منصرمة من حياته ..
– اجلسْ يا ولدي لنتحدث .
– عليك أن تغادر حالاً ..ألا تفهم ؟ بقاؤك فيه خطر على حياتك .!
انطلق الشيخ يتحدث بصوته الأجش غير آبه لما سمع .. آنسه وجود شخص يستمع له, فلم تجدِ محاولاته شيئا في إقناعه بالمغادرة ..
– لو تعلم يا ولدي كم أحببتُ هذا المكان قبلكم , وتمنيت أن أملكه وحدي ..كنت في شبابي كلما اعتراني اليأس أو مرت بي لحظات فشل , أهرع إلى هنا ..أرتشف من عبق الحضارة نَفَساً يبعثُ في روحي الأمل ..أسلافنا بنوا وعَمَّروا , وبقى أثرهم لنا .. ونحن نبني ليبقى أثرنا لمن بعدنا !
تزاحمتْ الأفكارُ في عقله .. ( وهذا منذ الشباب يأتي هنا ..أغاب عن تخطيطهم أيضا وجوده ..أم عدّوه تضحية لابد منها ؟)
انسابت كلماتُ الشيخ من فمِهِ لتنسكبَ على أسماعه وتنْفذَ منها إلى لُبِّ قلبه !
– لقد قررتُ منذ زمنٍ مضى أن أكونَ حجراً من حجارة هذه المعالم , وأثراً من الآثار, أفواجُ السُيَّاح التي تأتي ..تمُرُّ بي كما تمُرُّ بكلِ شيءٍ قديمٍ هُنا ..
ترك القدماء أثرهم حجارة صماء صامدة رغم السنين, أما أثري أنا فكلمات أقذفها في القلوب, أنا لا أبيعهم قِطًعَاً أثريَّة كتذكار, أنا أمنحهم قطعة من روحي عبر بطاقة للاتصال !
التفَّتْ كلمات الشيخ حول عقله وهزَّتْ كيانه بعنف ..صدى عباراته يتردد بداخله مئات المرات, يقتحم فراغات عقله وقلبه , ويطرد حشواً هُلامياً زائداً كان يطفو على سطحهما .
تنهَّدَ الشيخ ,وبَدَتْ مسحةُ حزنٍ وأسفٍ ترْتَسِمُ على ملامحه الهادئة وهو يقول :
– ليتني كالآثار إن هرمَتْ جدَّدوا بناءها ورمموها فعادتْ لتصمد مؤدِّية دورها السياحيّ سنين أخرى, فالإنسان إن هرم وانقضت لحظاته مات وانتهت حياته الدنيا , ليبدأ حياة أخرى تحت التراب .
أنا يا ولدي توشك حياتي أن تنتهي, وروحي سترفع من أوحال الأرض إلى قدسية السماء, ولكن قطعها المتناثرة في أرواح كل من زاروا هذا المكان من ثلاثين سنة ستظل تنبض مع نبض قلوبهم لتستمر بالحياة, مشرقة بأنوار الإيمان والصلاة .
أنا سأرحل, ولكنَّ هذا المكان سيظل, وستستمر أفواج السياح بالتوافد , فمن سيمنحهم من بعدي قطعة من روحه الفيَّاضة بأنوار الإيمان..؟
حدق الشيخ في وجهه بنظرات تحمل كلمات لم تنطقها شفتاه, فتولّتْ نقلها عيناه !
خيَّمَ عليهِ الوجوم واكتفى بالصمت..
الساعة الحادية عشر والنصف :
رنين هاتفه يرتفع بإصرار, دقَّت ساعة الصفر.. وصل فوج السُيَّاح وانتشروا في المكان أطفال ورجال ونساء, يتقدمهم مرشد سياحي .
تعلو الابتسامات وجوههم تارة , وتصبغها الدهشة والإعجاب تارة أخرى, وشعور بالعَظَمة يُخالطُ شِغافَ قلوبهم ..ترْويهِ عنهم ملامحُ الانبهار على صفحات الوجوه .
بينما انتشر الأطفال حول المكان في عبث بريء, غير آبهين لشيء مما يشد انتباه آبائهم , وصوت ضحكاتهم يرجُّ الآثار رجاً , يمتزج بتغريد العصافير وهديل الحمام, فيصنع سيمفونية حياة تعجز عن عزفها يد أمهر موسيقي أو فنان .
تخنُقُه اللحظات القصيرة المتبقية , دقَّات قلْبِهِ تتسارع كبندول ساعة يُحصي ثوان الحياة الباقية , تتخطّفُهُ ذكرياتٍ قديمة , تَهِيْمُ به في فضاءاتٍ روحيةٍ متنوعة , تمُرُّ الآيات التي حفظها من القرآن أمامه في شريط: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ, ولَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِك ,كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ …….
مدَّ يدَهُ يتحسسُ الحزام المُثبَّت على خاصرته , وصراع عنيف تدور أحداثه بين عقله وقلبه
مرتْ الدقائق ببطءٍ وتثاقل…
الساعة الثانية عشر تماماً:
أقبلَ طفلٌ صغير إلى منطقة الآثار ليلعبَ بدراجته , لَفَتَ نَظَرَهُ صوتُ رنينٍ متواصل , بحثَ حوْلَه حتى وَجَدَ هاتفاً ملقياً في أحد براميل القمامة , أخذهُ وعادَ يركض مسروراً إلى منزله ..
راقبَهُ من بعيدٍ بصمت …ثم عادَ إلى منزله مسروراً هو الآخر ببطاقة صغيرة أهداها إليه الشيخ مكتوب فيها:
إذا أرَدْتَ أنْ تكتشفَ الإسلام، اتصلْ على الرقمِ التالي……………………
2- حكاية أديب
للقاصة سماح بادبيان -عضو نادي السرد-عدن
تناول رشفة صغيرة من عصير البرتقال وأخذ نفسا عميقا , شدَّ يده على القلم وبدأ يخط على الصفحة البيضاء أمامه :
(( مساء شتوي مخيف , أصوات المدافع تنبعث من العدم , تخطف القلوب وتصهرها في بوتقة الرعب والهلع.. احتضنت الأم طفلتها الصغيرة ( لا تخافي يا حبيبتي فأنت بين يدي)
سألتها الطفلة : لِمَ , لمْ يعد أبي؟
ابتسمت قائلة : سيعود في الصباح .
تداخلت في عقلها الأفكار ..هل سيعود ؟؟ خرج منذ الظهيرة لشراء أرغفة الخبز, تأخر كثيراً وقد قارب المساء على الانتهاء !!
لكن المخابز جميعها مغلقة, مخبز واحد فقط في طرف المدينة يبيع الخبز.. لا بد وأنه غرق وسط طوابير البشر الباحثة عن لقمة تشبع بها الأفواه الجائعة المنتظرة في المنازل .
أكوام الحجارة في الطريق تعيق الحركة , تتناثر المنازل تحت القصف وكأنها قصور من تراب بناها طفل صغير وهو يلعب على شاطئ البحر فغمرتها موجة قادمة مع المد وسوتها بالأرض .
يذكّرها البحر برحلة العائلة في الصيف الماضي , مذاق عصير الزيتون ما زال في فمها , قصور الرمل التي بناها زوجها صمدت حتى المساء قبل أن تغمرها المياه وتسويها بالأرض , أصوات غناء أطفال إخوتها في السيارة تصدح في أذنها بألحانها الشجية ..
صنعت من جسدها ترساً تحمي به الطفلة النائمة في أحضانها من أي خطر مجهول …
انقضى ليل آخر طويل, وأشرقت الشمس واختفت بشروقها أصوات الانفجارات وكأنها تتوارى بنورها الباهت خجلا من أنوار الصباح المشرقة !!
بدأت الحياة تَدُبُّ في المدينة المدمرة ..أصوات أبواق سيارات الإسعاف تدوي في الأرجاء…
الشباب في الشوارع يرفعون مخلفات عنف همجي صبَّ جامَّ غضبه في المساء, يبحثون عن حياة لعلها دفنت تحت الركام !!
منزل فقد طابقه الثاني , وآخر اختفى تحت أكوام الأحجار , صرخ أحدهم:
– وجدت شيئا !!
أسرع الجميع ..أزالوا الحجارة .. نفضوا التراب.. سحبوا البطانية ..
وقف الجميع بذهول يتأملون ما يرون ..هو وحده ألقى الأرغفة الثلاثة من يده وجثا على ركبتيه …وأمام عينيه فوق البطانية جسدان رقيقان يسبحان في بركة دماء !!)).
وضع القلم, أعاد القراءة وهو يرتشف ما تبقى من عصير البرتقال.. هزَّ رأسه راضياً بما أملاهُ خاطرهُ على قلمهِ فسطَّرتهُ يداه .
طرق باب المكتب , وسلّم ما كتبه للمدير , دقائق مضت قبل أن يرفع المدير عينيه عن الأوراق ويعيدها إليه قائلا: (لا تصلح للنشر حاول مرة أخرى في موضوع آخر بعيداً عن الحروب والمآسي)
عاد إلى حيث كان جالسا , استلم قلمه , حكَّ رأسهُ بناصيةِ القلمِ قليلاً ثم شرع يكتب:
(( وقف أمام المرآة يعدل ملابسه , ربطة عنقه الحمراء تخنقه تكاد تكتم أنفاسه لكن لا مفر له من لبسها حتى تكتمل أناقته . تفقد ملفه: (شهادة الثانوية , شهادة الدراسة الجامعية , شهادة إتقان اللغة الانجليزية وشهادة الرخصة الدولية لقيادة الحاسوب , توصيات من إدارات المعاهد التي درس فيها, وشهادة حسن سيرة وسلوك من شيخ منطقتهم).
هتف بمرح : الأمور مبشرة بالخير .
التقت عيناه بعيني أمـه الواقفة تتأمله عند باب الغرفة , فقال مازحاً:
– لا تقلقي يا أماه, أعدك بأن يكسو عظمك اللحم قريبا بعد أن أستلم الوظيفة, وستزورين الطبيب تشكين السمنة .
رفعت يديها إلى السماء تُمطره بالدعوات ..
وصل إلى الشركة ..
للمرة الرابعة يجلس على كرسي الانتظار أمام مكتب المدير, لم يشفع له تقديره الممتاز في نيل الوظيفة في المرات الثلاث السابقة .!!
في المرة الأولى نظر إليه المدير شزراً وقال :
– ما قيمة شهاداتك من دون إتقان أي لغة أخرى , مازال أمامك درب طويل!.
يومها لم يعد إلى منزله بل إلى معهد اللغات الأجنبية في مدينته ليسجل اسمه طالباً فيه , ثم عاد إلى أمه راجياً إياها أن تقتصد في المصاريف لتوفير رسوم دراسته :
– خبز وفول يكفي الآن ، وغداً سنأكل ما نشاء عندما أستلم الوظيفة .
ومضت شهور الدراسة ..
وعاد إلى الشركة ثانية بشهادة امتياز أخرى حشا بها ملفه ..قلّب المدير الملف, ووضعه جانباً ثم سأله :
– هل تجيد استعمال الحاسوب ؟؟
لم يستسلم, وعاد ثانية لينضم إلى صفوف الدارسين في معهد الحاسوب ..
– لا ضير يا أمي بشهرين آخرين نحياهما على الخبز والفول ..وغداً أعوضك عن كل شيء .
في المرة الثالثة أتى حاملاً ملفه الكبير تتقدم أوراقه شهادة الرخصة الدولية في قيادة الحاسوب ..ولكن لم يُسمح له بمقابلة المدير , وقالت له السكرتيرة يومها :
– لقد كثر المخادعون واللصوص, لذا أضفنا شرطاً جديداً لمن يتقدم للوظيفة بأن يُحضر معه توصية من مكان دراسته, وشهادة حسن سيرة وسلوك من شيخ منطقته , فهل أحضرتهما معك؟
عاد أدراجه يسعى من مكان لآخر , وقضى أسبوعاً في رحلةٍ بين المعاهد حتى حصل على التوصيات وألحقها بشهادة حسن السيرة والسلوك من شيخ المنطقة .
وهاهو ذا اليوم يؤمِّل نفسه :(ملفي الحافل بالشهادات لن يخذلني, تقديرات الامتياز تزين واجهة كل شهاداتي , الخطوة الأولى موظف هنا , والخطوة التالية أن أترقى لأجلس مكان المدير)
أدخلته السكرتيرة إلى مكتب المدير… ملامحه الهادئة أشعرته بالاطمئنان والرضا (لن يذهب تعبي وتعبك يا أمي سدى )
تسمرت عيناه في شفتي المدير ..بانتظار ما ينفرج عنهما من كلمات وحروف ..!
قلَّبَ المدير الملف بهدوء , وأخيراً رفع رأسه إليه ، مطّ شفتيه وأشعل سيجارة نفث دخانها السام ملوثاً أجواء الغرفة , ثم قال :
– ليس لديك أي خبرة سابقة , لا يمكن أن نعتمد على شخص لم يجرب ميدان العمل , عندما تكتسب الخبرة الكافية تعال لأوظفك .
جرَّ نفسه إلى منزله هذه المرة بفؤاد جريح وقلب محطم , استقبلته أمه أمام الباب لم يستطع أن يرفع رأسه إلى وجهها فدفنه في أحضانها ودموع الخيبة تسيل على وجنتيه بغزارة كطفل صغير فقد لعبته المفضلة !!
ربتت على رأسه بحنان وقالت :
– لا بأس عليك يا ولدي لقد اعتدتُ على الخبز والفول !.))
وضع القلم يتأملها , ويصلح ما وقع فيه من أخطاء إملائية ..هزّ رأسه – للمرة الثانية – راضياً بما سطّر وروى .
عاد إلى المدير وسلَّمها إليه , دقائق تمرُّ وكأنها ساعات … خُيِّل إليه أن حدقتي عيني المدير تضيقان رغم سماكة النظارة التي يرتديها !
تنهد بعمق ملقياً الأوراق من يده , ثم شبك كفّيهِ أمامه متكئاً بمرفقيه على سطح المكتب قائلاً: (للأسف ما زالت لا تصلح للنشر , لديك أسلوب رائع لكنك تفتقد الفكرة, سأعطيك نصيحة قيِّمة إذا أردتَ أن تحترف الأدب أترك الكآبة جانباً , وانظر إلى ما حولك من الطبيعة والحياة ).
عاد إلى مكانه مجدداً وأخذ أوراقاً جديدة من السكرتيرة فقد استنفذ كل أوراقه التي أخذها سابقاً ..
استمرَّ يحكُ رأسه بالقلم عدة دقائق ..( أين أجد فكرة لأكتب حولها ؟)
جال بناظريه فيما حوله , الساعة الرابعة عصراً , السكرتيرة على مكتبها منشغلة بترتيب بعض الأوراق والملفات , بجانبه فتى منهمك في الكتابة منذ ساعة , أكمل قصتيه السابقتين ومازال هو يكتب واحدة!!
اختلس نظرة لكلماته علّها تلهمه شيئا, أو يقتبس منها فكرة :
(جلسا تحت ظل شجرة عنب كبيرة يتبادلان عبارات لطيفة …كان الجو ممطراً وجميلاً )
تساءل في نفسه : أين توجد مثل هذه الشجرة الأسطورية ؟؟
الجو الممطر يذكره بالدموع , وقد ذرف كثيرا منها في جنازة أمه ..
لم يجد في ذلك ما يكتبه ..عاد يختلس النظر إلى العبارات الأخرى :
(سيطر حبها على قلبه حتى تملَّكه … قبلة بريئة … أجمل أيام الدراسة الجامعية )
لم يفهم الرابط بين عباراته..!
أيام الدراسة الجامعية تذكره بالعمل المرهق الذي اضطر إليه لتوفير مصاريف الدراسة ..والقبلة البريئة تعصف برياح الأحزان في قلبه , وتعيد إليه ملامح طفولية, اختفت من عالمه قبل عدة سنوات, أما الحب فكلمة دفنها يوم دفن عائلته وغادر وطنه.
لم يعجبه نصه الرومانسي الخيالي.. فعاد إلى أوراقه, يُذكّره بياضها بالسيدة (نهاد )مديرة ملجأ الأيتام, كانت طويلة القامة بملامح هادئة ووجه مشرق من شدة البياض, لكنه لا يجد في ذلك أيضاً ما يكتبه !
وقف أمام النافذة يتأمل السماء باحثا عن ما يمكن أن يكتب حوله, أستغرق وقتا طويلا قبل أن يجد الفكرة فأسرع إلى أوراقه يكتب :
((السماء صافية , أسراب من الطيور المهاجرة تعود إلى أعشاشها التي هجرتها في مواسم الشتاء لتبحث عن الدفء والأمان ..
طائر صغير في آخر السرب عجز عن اللحاق بأصحابه, خانته جناحاه الصغيرتان, رفرف بقوة لساعات قبل أن تخور قواه فيتوقف ليستريح قليلاً على إحدى الأشجار .
ولشدة تعبه نام قليلا , ولمّا استيقظ لم يجد أثراً لسربه الطائر , أرهف السمع علّه يسمع شيئا من زقزقتهم من دون فائدة فقد ابتعدوا كثيراً , ولا يعرف أين اتجهوا !!
سمعت بومة عمياء تسكن ثقباً في الشجرة التي يقف عليها صوت زقزقته الحزين فخرجت من مكانها متسائلة :
– من هذا الذي يبكي على شجرتي ؟
أجابها الطائر الصغير :
– إنه أنا ..طائر صغير غادر موطنه ولم يستطع العودة إليه , جناحاي الصغيران لم يمكناني من الطيران مع رفاق سربي فتركوني ورحلوا .
رقت البومة لحاله وتألمت كثيراً , فقالت له :
– يمكنك البقاء عندي فأنا كما ترى بومة عمياء فإن ساعدتني على إحضار طعامي سأؤويك في عشي , والقرار بين يديك فماذا ترى ؟
وافق الطائرُ البومةَ على اقتراحها ..وعاش معها أياماً وشهوراً كثيرة بدفء وأمان , ولكنه كان يشعر بفراغ في قلبه يؤرقه ويصبغ حياته بالحزن والكآبة , لا يعرف كنهه ولا يجد للخلاص منه سبيلاً .!
أخبر البومة يوماً عن ما يشعر به , فقالت له (إنه الحنين )!
– شعورٌ فطريٌ – مغروس في القلوب – بالشوق للأحباب رفقة ًوأرضاً , زماناً ومكاناً, تغذيه ذكريات محفورة في سويداء القلوب .
– ولكني أحبك وأحب هذه الغابة !
– أحببتني لأني ساعدتك عندما احتجتَ للمساعدة , وأحببتَ هذه الغابة لأنها صارتْ مأواك عندما فقدت المأوى, ولو طردتُكَ من هنا لكرهتني وكرهتَ الغابة , ولمَا أردتَ العودة هنا مرةً أخرى .
أما أرضك التي نشأت فيها , ورفاقك الذين تربيت بينهم .. فسيظل حنينك إليهم مهما حدث ورغم كل الظروف , لأن حبك لهم نابع من فطرتك , وحبك لنا نابع من حاجتك وشتان بين الحبين !
– وماذا أفعل لأملئ الفراغ في قلبي ؟
– عليك أن تراقب السماء في الفجر وعند المساء , فإذا شعرت فجأةً بامتلاءِ الفراغ في قلبك طرْ ولا تنظر أبداً للوراء .
استمر الطائر بمراقبة السماء دون أن يفهم مغزى ذلك وجدواه , وفي فجر أحد الأيام سمع زقزقة جميلة , ورأى سرباً طائراً في السماء , شعر بقلبه يتقافز في صدره وبرغبة عارمة بالتحليق , رفرف بجناحيه , فوجئ بالطول الذي صارتا عليه من دون أن ينتبه ! ..
شدَّ همّتهُ وطار في السماء , شعر بأن قلبه ممتلئ بالسعادة والسرور ,وأدرك أخيراً ما كانت تعنيه البومة .
أقترب كثيراً من السرب الطائر وحلَّق بين رفاقه من جديد, لكنه في غمرة سعادته نسيَ ما قالت له البومة فحانت منه التفاتة للوراء, فرأى البومة العمياء تقف على الغصن تنعق منادية عليه وتتحسس بإحدى جناحيها في الهواء باحثة عنه .
أبطأ قليلاً في طيرانه وظل يراقبها , تردد في الاختيار بين المضي والعودة ..اقتربت من طرف الغصن ..تكاد تقع من عليه ..حزم أمره أخيراً ..
التفَّ سريعاً إلى الوراء وعاد , اختار أن يبقى جسدهُ هنا وقلبهُ هناك !))
طوى الورقة .. ثم سلّمها للسكرتيرة راجياً منها أن تسلّمها للمدير نيابة عنه ؛ فقد خجل من الدخول إليه وذاك الفتى عنده يسلّمه قصته..
دقائق مضت قبل أن تعود السكرتيرة من مكتب المدير بقصته ونموذج قصة أخرى قائلة له :
– إن المدير يطلب منك أن تقرأ هذا النص وتكتب مثله إن أردتَ أن تصبحَ أديبا .
تناول نموذج القصة ليقرأها ..لكنها لم تكن إلا النص الرومانسي الخيالي الذي كتبه الفتى الذي كان بجواره… ولم يعجبه !
أخذ ورقة بيضاء وكتب عليها سطراً واحداً , ثم طواها وأعطاها السكرتيرة لتسلمها المدير… وغادر المكان !
فضَّ المدير الورقة وقرأ :
(إذا كان هذا هو ما يعنيه الأدب ..فأنا أُعلن – بكل فخر – إني قليل الأدب!).
Posted in مــقــالات, نصـوص | التعليقات على قصتان قصيرتان لسماح بادبيان مغلقة
Comments are Closed