سحر لحج والمسيمير وتجارة القات

الفصل التاسع من كتاب (الجزيرة العربية والجزر، 1942)
تأليف هارولد انجرامز
ترجمة مسعود عمشوش
خلف الشيخ عثمان مباشرة تقع أراضي أقرب جيران عدن، صاحب السمو العبدلي سلطان لحج، أول رئيس لمحميات [عدن] الغربية. وتقع محمية لحج خلف مركز الشرطة والشيخ عثمان والحاجز الذي يقع على الطريق المؤدي إلى دار الأمير. وهذا الطريق هو في الواقع الطريق نفسه الذي يقود إلى بلاد اليمن عبر لحج وبلاد السلطان الحوشبي؛ فأنت تصل عبره، بعد نحو مائة ميل، إلى تعز. ومن تعز يمكنك الوصول إلى الحديدة بالسيارة، وأعتقد أنه إذا تمكنت من ترتيب الوقود وجميع التصاريح اللازمة، ولم تتعطل بشكل لا رجعة فيه، يمكنك في النهاية الوصول إلى لندن. فخلال الحرب السعودية-اليمنية، وصلت قوات الملك عبد العزيز إلى الحديدة في شاحنات فورد من جدة، ومن جدة قاد السيد والسيدة فيلبي سيارتهما إلى لندن.
**
كانت قد مضت عشرة أيام على وصولنا إلى عدن، عندما انطلقنا لنتعرف على لحج لأول مرة. بلغنا أولا مركز الشرطة الذي رأيناه في زيارة العام الماضي، لكن هذه المرة كانت لحظةً مُبهجة، إذ لم نعد غرباء، فحالما تأكد الشرطي عند الحاجز من هويتي، دفع البوابة ودخلنا أرضنا الموعودة. ولمسافة مئتي ياردة كنا في أرض محايدة، وبعد أحد الأعمدة الحجرية التي تُشير إلى الحدود، وصلنا حصن جمارك العبدلي التابع للسلطان العبدلي. وبعده يقطع عمود آخر الطريق بين دار قائد الحصن الطيني العالي ومبنى آخر أصغر مفتوح الواجهة، حيث يستلقي الضابط أو أحد أتباعه على أريكة مرتفعة لاستلام الجمارك. ويظل بلا مبالاة وبلا أي انفعال ينفث دخان نرجيلة، بينما تُنزل حشود من البدو الصاخبين جمالهم، أو تغلي الحافلات المكتظة بشدة، بينما تُفتّش أمتعة الركاب.
وقد رحب بنا أناس ودودون و افسحوا لنا الطريق وسط الحشد، فهم لا يوقفون سيارات الأوروبيين القادمين من عدن، وسرعان ما انطلقنا مسرعين عبر عشرة أميال من رمال الصحراء التي تفصل الشيخ عثمان عن مدينة لحج، في رحلة تستغرق حوالي ساعة. وبشكل عام، لم يكن الطريق جيدا، وكان علينا الالتزام بالسير وسطه وتجنب المسارات المحروثة جيدًا في يساره،
وكان هناك ازدحام مروري كثيف على الطريق، قديمًا وحديثًا، وتجاوزنا العديد من القوافل الذاهبة والعائدة بين عدن ولحج. كانت الحافلات وسيارات الأجرة تمر في كلا الاتجاهين بسرعات مذهلة. في إحدى سيارات الأجرة التي توقفت، أحصينا أربعة عشر راكبًا. كانت جالونات الوقود محملة حتى في أسطح العربات. لم أستطع أبدًا فهم كيف كانوا ينتقلون من طرف إلى آخر. في الحقيقة، إن وسائل النقل البري الأكثر استخداما هنا هي القديمة؛ والإبل بنبعها الأصفر لها طابع عصري إلى حد ما. وفي لحظة ما، ظننا أننا ننظر إلى بعض خشب (برنام) في سوق حاشد؛ وبالتمعن والنظر عن كثب، اتضح أنها صف من أكوام القش تتحرك نحو عدن. في الواقع، كانت هناك تحتها إبل، لكنها كانت غير مرئية تمامًا من مسافة بعيدة. ويتم جلب جميع الأعلاف اللازمة لعدن وخضرواتها وحطبها يوميًا من المناطق الداخلية، والكثير منها يأتي عبر هذا الطريق. والإبل تعرف طريقها جيدًا، والسائقون عادةً ما يظلون نائمين فوق الحمولة. وقد وجد (زيدي)، الذي جاء معنا، متعة كبيرة في رؤية سيدة نائمة بسلام على سرير مربوط فوق ظهر دابة محملة.
ومع اختفاء جبال عدن خلف الضباب، برزت جبال الداخل أكثر بساطة، وبرزت أمامنا المنازل الكبيرة، الواقعة وسط حقول خضراء تتناثر فيها أشجار النخيل. إننا ندخل واحة لحج.
مررنا تحت أشجار ظليلة، ورأينا بخيمة كان بداخلها حارس شرطة العبدلي يفحص المسافرين عند دخولهم وخروجهم، وصولاً إلى ساحة واسعة تعج بسيارات الأجرة والجمال والرجال؛ في الواقع، هذه ساحة سيارات الأجرة. ولا أعلم كم من القطع الأثرية هناك يمكن أن تتحرك إذا ما تعرض الحارس للإغراء والضغط. وتوجهنا بالسيارة إلى منزل الحارس وتركنا السيارة هناك في الظل.
ينقسم جيش سلطان لحج، الذي يحرس مناطق نفوذه، إلى قوات لحج المدربة، وهي قوة مسلحة مجهزة تجهيزًا جيدًا، قوامها بضع مئات من الرجال، وحاشيته القليلة، والقوات غير النظامية. ونادرًا ما يُستدعى رجال القبائل غير النظاميين، ويحتفظ السلطان بأسلحتهم في ترسانته. وشقيقه، السلطان أحينيد، هو القائد العام للجيش، وابن أخيه، السلطان صالح، الذي يحمل رتبة بيمباشي أو رائد، يقود قوة المهام الخاصة. ورأينا بعضهم الآن لأول مرة يجلسون على مقعد طيني يمتد حول بيت الحراسة، حيث يقف الحارس بحربة ثابتة.
*
كسائر المدن العربية، يكمن سحر لحج في عشوائيتها. فهي مبنية من الطين، وباستثناء قصور السلطان، لا تزال البيوت بلون الطين الطبيعي. وعادةً ما تكون المدن العربية المطلة على البحر مطلية باللون الأبيض، ولكن ما لم يتوفر المرجان أو الحجر المناسب لحرق الجير، فإن تلك البيوت الموجودة في الداخل تندمج مع المشهد الطبيعي. وتشرف قصور السلطان على المدينة: فالقصر القديم، ذو الواجهة الحجرية الصلبة، يشرف على يمين الساحة، عبر بوابة مغلقة بأبواب منزلقة. أما القصر الجديد، الأبيض الأنيق، فينتصب وسط حديقة بديعة تواجه الساحة وظهرها للصحراء.
وترتفع بعض المباني إلى أربعة أو خمسة طوابق، وأخرى لا يتجاوز ارتفاعها اثنين أو ثلاثة، ومعظمها مكون من طابق واحد فقط. والغبار والرمال يهيمنان في كل مكان، وكما هو الحال في عدن، تنتشر أكشاك جرار الفخار، حيث يمكنك شراء كوب من الماء البارد مقابل (عانة). ويعج شارع السوق الرئيسي الضيق بالمحلات الصغيرة، وفي معظمها ترى رجال يتجاذبون أطراف الحديث حول النرجيلة. أما المقاهي المفتوحة فقد اكتظت بالحشود، وفي إحدى زواياها انتصب مقهى كبير، “قطة السلام” بكراسيه وطاولاته الممتدة على الطريق. وعند مرورنا بالسوق، وصلنا إلى محط الإبل، حيث كانت الحيوانات القادمة من الداخل تُفرّغ حمولتها. وكان من الصعب التخلص من حشود الصبية الصغار، الذين كانوا يحملون عصي يدوية الصنع في أيديهم، يتبخترون خلفنا، ويصيحون “بقشيش، بقشيش!”.
*
وبعد هذه الزيارة إلى لحج بفترة وجيزة، اقترح علينا قضاء عطلة نهاية الأسبوع في المسيمير، عاصمة السلطان الحوشبي، على بُعد حوالي أربعين ميلاً من لحج، وقد اضطررنا لاصطحاب أربعة جنود. وغادرنا في موكب من ثلاث سيارات. كان الطريق سهلاً نسبيًا لعدة أميال، وإن كان رمليًا ووعرًا. وكان يتعرج عبر الحقول الخضراء ويمر ببساتين السلطان الواقعة في الحسيني، حيث تصطف على جانبيه أزقة مظللة من أشجار اللوز الأفريقي (البيدام). وعند وادي تبن، كان الطريق يتعرج بشكل دائري، صعودًا وهبوطًا. وجعلت الصخور وأكوام الرمال الكثيفة قيادة العربة صعبة على “د”. ثم أصبحت التلال التي كانت بعيدة في السابق قريبة، وأصبح السطح صخريًا. ومررنا بحصن العند الذي يقف على تل رملي، وعند الانعطاف بين سفوح التلال المنخفضة، سمعنا إطلاق نار كثيفا. وأدركنا في لحظة أن هذا هو الترحيب المعتاد في البلاد، وأننا دخلنا أراضي الحوشبي. بالنسبة لنا، بالطبع، كان الأمر أكثر من مجرد تحية رسمية. فلحج، التي يحكمها سلطانها الخاص، مدينة متحضرة للغاية. اما هنا فنحن في شبه الجزيرة العربية الجامحة وكان هذا أول ترحيب لنا في بلاد السلطان الحوشبي الذي اصطفوا جنوده على جانب التل.
قصر السلطان:
وقد أصرّ محاربو القبائل للوقوف على مكان مرتفع، وكان مشهدهم خلابا، لكنهم لم نعرف مدى فعاليتهم في الحرب الحقيقية. وكانوا جميعا سودا كالأفارقة، مع أنني رأيتُ لاحقًا أن بعضهم كان يتمتع بملامح أجمل. ولم يكونوا يرتدون سوى عمائم زرقاء داكنة فوق رؤوسهم، وفوطا داكنة حول خصورهم، مثبتة بحزام خرطوشة.
وأشار عبد المنتصر، المسؤول عنا وعن مرافقينا، إلى جبل (ورواه)، وهو جبلٌ خلابٌ أثار اهتمامي شخصيًا، فقد ورد ذكره في أحد الكتب العربية التي كنت أدرسها في كلية الدراسات الشرقية. وبعد قليل، استدرنا حول نتوءٍ صخريٍّ، ورأينا لأول مرةٍ المسيمير، التي يُهيمن عليها قصر السلطان، على بُعد نصف ميلٍ تقريبًا. قطعناها في دقيقةٍ أو دقيقتين، ثم ترجّلنا من السيارة على وقعِ نيرانٍ مُدوّيةٍ من البنادق، وعدّةِ طلقاتٍ من مدفعٍ عتيقٍ عيار عشرة أرطال. وسرنا مع السلطان وابنه إلى القصر الحجري الخشن، تحت قوسٍ قديمٍ وجذاب، بين صفوفٍ من الجنود، تُطلقُ الكثيرَ من الذخيرةِ الكرويةِ على بُعدِ بوصاتٍ قليلةٍ من آذاننا. وبعد غروب الشمس، لم نستطع رؤيةَ شيءٍ في الظلامِ الذي غرقنا فيه. كان الطابقُ الأرضيُّ من القصر سجنًا للدولة، وعلى أحدِ جوانبه نُشِرَ القشُّ والأغصانُ كأماكنِ إقامةٍ ليليةٍ للسجناء. أما في النهار، فيبدو أنهم أحرار في فعل ما يحلو لهم وكانوا يتجولون حاملين سلاسلهم بقطعة من الخيط.
صعدنا درج القصر المظلم والوعر، متعثرين بالحجارة الخشنة والطين الجاف الذي بُنيت به، ثم أخذنا السلطان إلى حجرة ضيوف ذات سقف منخفض تسنده جذوع أشجار ملتوية. كانت الحجرة طويلة وضيقة، ونوافذها الصغيرة تُفتح على أرضية من الطين الجاف، مغطاة بحصر من القش وسجاد شيرازي وأقمشة فراشية تُشبه اللحاف. كانت هناك طاولة ذات سطح رخامي تُذكرنا بليون، وأربعة كراسي قابلة للطي، بينما كانت وسائد مستطيلة صلبة مغطاة بأقمشة حريرية زاهية تُبطن اللوح الخشبي.
ثم نقلنا السلطان إلى الكراسي، لكننا أصررنا على الجلوس على الأرض مثل مُضيفينا. ودخل أربعة أو خمسة رجال مع السلطان، وفي الخارج كان الجيش لا يزال منشغلاً بإطلاق النيران تحيةً لنا. وكان السلطان سرور يرتدي حذاءً وجوارب، وفوطة تُشبه التنورة الاسكتلندية مع جنبية أنيقة بحزام عند خصره، ومعطفًا أبيض من قماش الحفر، وعمامة بألوان داكنة متعددة.
**
عندما انحسرت حرارة النهار، صعدنا إلى سطحٍ مُحاطٍ بسورٍ يبلغ ارتفاعه حوالي أربعة أقدام. كانت هناك مناظر خلابة لجبل ورواه شمالًا وجبال منطقة الصبيحي غربًا. عبر كل هذه المنطقة البرية المهيبة ذات الصخور القاحلة، شقّ وادي تيبان، المتعرج عبر حقول الذرة، شقًا رائعًا وجميلًا من… وكان منظر غروب الشمس جميلاً، والقمر نصف مكتمل النموّ وظاهراً. وكان سطحنا يطل على جميع الأسطح المستوية المُغطاة بالحواجز في القرية.
وتناولنا عشاءنا على السطح، ثم خرجنا، مصحوبين برجال مسلحين كالعادة، لمشاهدة حفلة رقص تؤدى خارج أسوار القصر. نصف حلقة من الرجال والنساء، يلتفّون حول بعضهم البعض، يتحركون صعودًا وهبوطًا، يثنون ركبهم (بأسلوب عصري غريب) بإيقاع إيقاعي، على أنغام طبل يقرعه أحد السجناء المربوط بسلسلة في ساقه. كان في غاية السعادة وهو يقف أو يجلس القرفصاء يقرع طبلته الصغيرة الشبيهة بالبرميل ويدخن السجائر. كان يغني منفردًا، بينما كانت الراقصات تغني الكورسات. كان معظم الأغنية المرتجلة تهويدة هادئة تُلهمنا قبل النوم – “الولي والمدام، مسلخير”. في نهاية الرقص، ودعنا بعضنا البعض وصعدنا إلى السطح حيث فُرشت أغطية فراشنا. وأشرق القمر على الأجساد الممددة للنوم على أسطح المنازل، وكنا أيضًا نائمين على صوت الطبل الخافت، والغناء، ونباح الكلاب، ونهيق الحمير.
وفي صباح اليوم التالي، استيقظتُ أبكر بكثير من بقية سكان البلدة الصغيرة، إذ رأيتُ فوق أسطح القرية أشخاصًا مُستلقين ملفوفين بأقمشة ملونة على فرش أو حصائر، ولم يكن أحدٌ يتحرك. دُهشتُ لأن الضوء كان قد بدأ، لكن النائمين كانوا يتحركون تدريجيًا، ثم يجلسون، ويكشفون رؤوسهم عن الأقمشة الملفوفة حولهم، ويتثاءبون، ويمددون أذرعهم. بعد لحظة من التفكير البعيد في اليوم الجديد، نهضوا، وشدوا أحزمة خصورهم، وترنحوا في أماكنهم.
وكان الصباح جميلًا، ولكن بحلول وقت فطورنا، كان السطح قد أصبح شديد الحرارة. ونزلتُ لأتحدث مع السلطان بشأن القبض على بعض القتلة. نحن، بالطبع، لا نتدخل في الشؤون الداخلية للسلطنة؛ فإذا قتل أحد (الحوشبين) حوشبي آخر، فلا شأن لنا بذلك، ولا يهمنا في الواقع أن يقتل أحد أفراد قبيلة أحد أفراد قبيلة أخرى. المهم هو المكان. إذا تعرض مسافرون من بلدان أو قبائل أخرى للتحرش على طرق التجارة، فستحدث مشكلة، ويتعين على السلطان المسؤول إلقاء القبض على الجاني ودفع تعويض كامل عن أي سرقة ارتُكبت. وفي هذه الحالة، كانت هناك قضيتان عالقتان، وبدا أن أمل السلطان ضئيل في القبض على المجرمين الحقيقيين، وقال إنهم فروا من البلاد. لم يكن حديثنا حاسمًا عندما تطرقنا إلى مسألة توريد الأسلحة والذخيرة.
الزيارة الثانية إلى لحج:
في زيارتي الثانية للحج أخبرني السلطان أنه يريد إرسال ابنه للقيام بأول زيارة له إلى عدن، التي ينظر إليها العرب في الداخل بوصفها نوعًا من باريس. وبعد الظهر، وجدتُ بائعًا متجولًا قادمًا بحمولة من البضائع من عدن. إلى جانب بعض الكماليات الصغيرة، مثل صابون التواليت والعطور وغيرها، وكان لديه بعض الألعاب، أحاط بها “بالونات” بسعر عانة واحدة لكل منها. وبنصف روبية، تمكنتُ من إسعاد معظم أطفال القرية وإضافة المزيد من الضجيج إلى جوقة الحمير وبكاء الأطفال.
وكان (د.) يزور حماة السلطان التي كانت مريضة للغاية على سجادة من قماش متسخ، يُرضعها عبدٌ رقيق اليد. على أمل شفائها، وأحضر رجلان عنزة، ومرراها على جسدها سبع مرات، ثم ذبحاها ووزعا لحمها على الفقراء. ومع ذلك، ماتت المرأة في تلك الليلة.
وفي صباحنا الأخير في المسيمير، اندفعنا من السطح باكرًا بسبب دخان فرنين طينيين كبيرين على سطح أسفلنا. وكان أحد العبيد يُغذي النار بشجيرات خضراء، وكان هناك امرأة أخرى تُحضّر الخبز – عجينة من الدقيق والماء تُفرد وتُدهن بالسمن، وتُعجن، ثم تُفرّغ وتُلصق داخل الفرن الساخن. ويُطهى كل ذلك في حوالي عشر دقائق. وبعدها تُرفع الأرغفة المستديرة المسطحة من جانب الفرن وتُرصّ فوق بعضها البعض في طبق. وعندما ودّع “د” النساء، أهدته بعض العسل اللذيذ، الذي وجدت طعمه غريبا لكنه ممتاز، لأنه مُغلّف بالقرع. ويُدفع من خلال ثقب صغير، ومن الصعب جدًا رؤية كيف يتم ذلك.
**
وبعد شهر أو شهرين، زرنا لحج مرة أخرى، ولكن هذه المرة ضيوفًا على صاحب السمو السلطان العائد من الهند. وقد دعانا لتناول الإفطار معه، وقد يبدو الأمر وكأن رحلة وعرة عبر الصحراء رحلة مُكلفة لتناول الإفطار، لكن العمل كان سيُضاف إلى المتعة، وكان من المقرر أن أحضر مؤتمرًا سيُجري فيه سموه لقاءً مع بعض شيوخ الصبيحة الذين يُعلنونه سيدًا لهم – بقدر ما يملكون، لأن الحقيقة ليست فيهم.
وكان الصبيحيون يمارسون هوايتهم المعتادة: ابتزاز قوافل القات. إنهم قبيلة مضطربة ومتشظية إلى حد كبير، وبالتالي منقسمة على نفسها، وتعيش في الصحراء وسفوح الجبال بين دولة العبدلي ومضيق باب المندب، غرب عدن. والقات، المعروف أيضًا باسم الكاثا إدوليس، شجيرة تنمو بشكل رئيسي في تلال اليمن، ومضغه هو الترفيه الرئيسي ليس فقط لليمن ودول الخليج. ويمضغه كثير من السكان في هذه المحمية الواقعة بين اليمن وعدن، بل وحتى العدنيين أنفسهم. وهو ليس رخيص الثمن – فعشرة براعم تقريبًا تكلف ما يصل إلى اثنتي عشرة عانة – لكن من يستمتع به ويستطيع تحمل تكلفته، أو يظن ذلك، ينفق عليه أكثر مما ينفقه معظمنا على التبغ. ولا بد أن الناس هنا قد تعودوا على مذاقه، فقد جربت ورقة أو اثنتين ورأيته قذرًا، لكن عندما تتعود على طعمه، فإنه يجعلك تشعر بالسوء. إنه ليس منومًا، بل على العكس، يوقظك ويشحذ ذكائك – على الأقل هذا ما يخبرني به المدمنون. وأعترف أن معظم المدمنين يحتاجون إلى شحذ ذكائهم، والمؤسف أن آثاره قصيرة جدًا. إنه باهظ الثمن لدرجة أن الرجل العادي لا يستطيع تحمل سوى يوم واحد في الأسبوع ويشعر فيه بأنه إنسان خارق. وعادةً ما يكون ذلك يوم الجمعة، وعندما تنتهي الصلاة، يتجمعون في حفلات (مقايل) القات. ويصل كل فرد من المجموعة إلى مكان اللقاء حاملاً بضع حزم من القات، وكل ما يفعله المضيف هو توفير أواني البصاق. وبعد ساعة تقريبًا، تبدأ القصص بالتطور. ويا لها من حكايات سيرويها الصيادون ولاعبو الجولف لو اعتادوا على القات!
والقات غالي الثمن لأنه يجب أن يكون طازجًا، وإلا فهو عديم الفائدة. تُجمع البراعم في الصباح الباكر من تلال اليمن، وتُعبأ بعناية في العشب والأغصان الخضراء للحفاظ على نضارتها. تُحمّل الحزم الصغيرة فورًا على الجمال – 300 حزمة في الحمولة – وتصل القوافل إلى لحج صباح اليوم الثالث، بعد رحلة متواصلة. تُنقل الحمولة المخصصة لعدن بالحافلات.
إنها تجارةٌ غريبة، والمعلومات عنها قليلة. قد تكون الخسائر في سلعةٍ سريعة التلف كهذه كبيرة، وهذا ما يجعل سعر التجزئة باهظًا. لكن هناك الكثيرون ممن يحصلون على عمولةٍ من هذه التجارة الفاخرة، ولا يرغبون في زوالها. وكانت الشكوى ضد الصبيحيين أنهم، رغم عدم أحقية جماعتهم في الحصول على عمولة، فقد كانوا يأخذونها. وذات مرة كانت إحدى قوافل القات تتجول بسلام عندما نزل حشد من الأشرار التابعين لزعيم تافه من أعلى تلة، مدججين بالسلاح، ومزقوا الأحمال إربًا، واستخرجوا بعض الحزم المختارة، فكانت النتيجة أن وصلت الأحمال إلى عدن جافة و”غير صالحة للاستهلاك البشري”.
السير عبد الكريم فضل:
عندما وصلنا إلى القصر، نزل سموه الدرج ليقابلنا بنفسه. وكان السير عبد الكريم فضل رجلا في الخمسين من عمره تقريبًا، طويل القامة ونحيف، ذو لحية مدببة أنيقة وعينين ثاقبتين. ولا شك أنه حاكمٌ ويمارس جميع صلاحياته. وكان يرتدي ملابس هندية، بنطالًا ضيقًا، ومعطفًا طويلًا بأزرار حتى العنق، وعمامة ذهبية ملفوفة عاليًا، ووميضًا يتدلى فوق رقبته. كان يرتدي فوق معطفه ضفيرة ذهبية شفافة، تُشبه إلى حد ما زي زنجبار.
واصطحبني (بوشتي) إلى غرفة معيشة واسعة، مُضاءة بلمبات فرنسية، وتُطل على شرفة صغيرة فوق الرواق، تُشرف على حديقة يتم الاعتناء بها جيدًا، تناثرت فيها أزهار الدفلى، وتتوسطها نوافير لها صوت شجي، وأعمدة رفيعة تحمل كرات ضوئية كهربائية تُحوّلها ليلًا إلى عالم من الخيال. وكانت غرفة المعيشة إنجليزية الطراز، أقرب إلى الطراز الإدواردي: سجادها ذو مظهر ناعم. وكراسيها وأرائكها المريحة مُغطاة بمنسوجات حريرية ناعمة.
وسرعان ما أدركنا أن العمل يأتي دائما قبل الإفطار؛ فصاحب السمو أرسل إلى الزعماء والوجاهات الاجتماعية للحضور. وكان هناك السلطان الحوشبي المتهالك بعض الشيء. تقع أراضيه بين سلطان العبدلي واليمن، وفي الغرب من أراضيه هناك الصبيحيون الخارجون عن القانون، وفي الشمال أمير الضالع الذي لا يحبه، وفي الشرق والجنوب الشرقي يجاور اثنين من أسواء قبائل الفضلي – آل الفليس وآل حيدرة منصور. إجمالاً، لا يستمتع هذا الأمير كثيرًا بمن حوله. مع ذلك، فهو مستقل ويعترف بسيادة غامضة لسلطان لحج الذي يعامله بشكل جيد ويساعده بشكل كبير.
ثم كان هناك اثنان من شيوخ الصبيحة: الرجائي، وهو فتى عنيد في الثامنة عشرة تقريبًا، والمقدومي، وهو رجل عجوز لطيف. دخلوا جميعًا، وقبلوا يد سموه، وجلسوا القرفصاء على الأرض على مسافة احترام. بعد قليل، وصل الأمير فضل، الابن الأكبر لسموه، وبعد أن صافحنا، قبل يد والده، واصطحب (د.) لزيارة السيدات. وبدأ اللقاء، واستمر ساعةً كاملةً وانتهى دون نتيجة. فمن جهة، كان المتهم الرئيسي، الشيخ المنصوري، غائبًا، ومن جهة أخرى، بدا من المستحيل إقناع الفتى الرجائي بأن أحد أجداده قد وقّع معاهدةً عام ١٨٧١ مع ممثل الملكة فيكتوريا تضمن له عدم التدخل في شؤون القوافل مقابل راتب شهري قدره أربعون دولارًا. قال الفتى، بصدق، وليس بغير منطق، وإن لم يكن من حقي الاعتراف بذلك، إنه ببساطة لا يجدي نفعًا أن يكون صالحًا.
ورفعنا الجلسة أربعة أيام، وفي زيارتي التالية وجدتُ أن الرجائي قد قضى هذه الفترة ضيفًا على سموه في السجن. غالبًا ما يُريح سجن لحج النفوس، وبما أن الشيخ المنصوري قد أُحضر فقد غادرتُ بوعودي المعتادة بأن الشباب سيكونون بخير في المستقبل.
في هذه الأثناء، أخذ فضل (د.) للقاء والدته. وعندما عادا لتناول الإفطار، أُخذنا للاستحمام في حمام حقيقي، مزود بصنابير ومياه جارية. غرفة الطعام الباردة بستائرها السوداء وكانت أرضية الرخام الأبيض خارج غرفة الجلوس، وكانت الطاولة تلمع بدفءٍ بفضل كتانها الأبيض وفضتها المصقولة. تناولنا العصيدة، والكبدة والبطاطس، والأومليت [الشكشوكة]، والخبز والزبدة، والمربى، والشاي. بعد هذه التجربة التي تشبه أجواء المنازل الريفية الإنجليزية، ومع زقزقة الطيور وصوت النافورة في الحديقة الذي يرن في آذاننا، عدنا إلى عدن العربية، التي يكاد لا يوجد فيها منزلٌ مشابه وبمثل وسائل الراحة الحديثة هذه، وحيث تصل حصتنا اليومية من الماء إلى جبلنا في خزانات دائرية تحملها ثلاثة حمير صغيرة.
Comments are Closed