حضرموت في كتابات سرجانت

مسعود عمشوش
المقدمة
لماذا اهتم الغربيون بتاريخ حضرموت وأدبها الشعبي؟
إثر أحداث 11 سبتمبر 2001، قررت الولايات المتحدة الأمريكية إرسال عددٍ كبيرٍ من عناصر استخباراتها إلى حضرموت لدراسة لهجة البلاد والتعرف على طريقة تفكير الحضارم في تلك الفترة، وذلك بعد أن تبيّن لها أن بعض الطيارين الذين اشتركوا في هجمات 11 سبتمبر كانوا يستخدمون تلك اللهجة، وتسربّت تلك العناصر الاستخباراتية الغربية إلى داخل مختلف المعاهد والحلقات الدينية الموجودة في وادي حضرموت، وفي كثير من الأحيان بذريعة انتسابها إلى هذا المذهب الديني أو ذاك. وحرصت الاستخبارات الغربية على اختيار تلك العناصر من بين مواطنيها الملونين: آسيويين وسود، ومن النادر أن يكون بينهم بيض. وفي الحقيقة، لم يكن سعي الدول الاستعمارية الغربية إلى دراسة حضرموت وأهلها ولهجاتهم وعاداتهم أمرا جديدا، فمن المعلوم أن هولندا قد كلفت الضابط المستعرب فاد در بيرخ برفع تقرير عن حضرموت سنة 1885، ونشر منه نسخة باللغة الفرنسية سنة 1886 بعنوان (حضرموت والمستوطنات العربية في الأرخبيل الهندي، انظر ترجمتنا للكتاب). وفي مطلع ثلاثينيات القرن الماضي كلفت هولندا قنصلها في جدة، فان دن ميولن، لزيارة حضرموت ورفع تقارير عن سكانها، الذين ترى أن جزءا منهم رعايا لها (انظر كتابنا: حضرموت في كتابات الغربيين). وقبل أن توقع بريطانيا معاهدات الاستشارة مع سلطنتي حضرموت في نهاية ثلاثينيات القرن الماضي كلفت الضابط هارولد انجرامز برفع تقارير مختلفة عنها، وقد استفاد انجرامز كثيرا من تقرير فان در بيرخ.
ومن المؤكد كذلك أن الدول الغربية قد حرصت على استقطاب عددٍ من العلماء المستعربين والرحالة المغامرين للعمل ضمن دوائرها الاستخباراتية العاملة في حضرموت؛ ففان دن بيرخ وفان در ميولن وهارولد انجرامز وروبرت سرجانت كانوا في الأساس علماء مستعربين، وتحمّسوا للعمل مع المؤسسات الاستخباراتية ليتكنوا من القيام بدراسات ميدانية تدخل ضمن طموحاتهم وتخصصاتهم العلمية.
وهناك مجموعة من الرحالة المغامرين الغربيين، عسكريين ومدنيين، الذين جاءوا إلى جنوب الجزيرة العربية وانتهى بهم الأمر بالعمل ضمن المؤسسات الاستخباراتية البريطانية، مثل جورج وايمان بُري (الملقب علي منصور) وفريا ستارك، وكتبوا نصوصا مهمة حول رحلاتهم في بلادنا. ومن بين هؤلاء المستعرب السويدي الكونت كارلو دي لاندبرج، الذي عينته جامعة النمسا مشرفا لبعثتها لدراسة لهجات جنوب الجزيرة العربية في نهاية القرن التاسع عشر، وكتب مجلدات عدة حول لهجة حضرموت ولهجة دثينة. وقد ضمّن كتابه عن لهجة حضرموت، سنة 1900، مجموعة مهمة من النصوص النثرية والشعرية باللغة العامية. وفي سنة 2020 قمت بإصدار كتاب عن (لهجة حضرموت في كتابات الكونت كارلو دي لاندبرج) ضمنته جميع النصوص الشعرية والنثرية الحضرمية التي ضمنها في كتابه، والتي اطلع عليها المستعرب روبرت سرجانت قبل مجيئه إلى حضرموت في شتاء 1947-1948 بتكليف من إدارة المستعمرات البريطانية، لدراسة لهجة حضرموت وأدبها ومجتمعها، وذلك بهدف إحكام السيطرة عليها.
وبالنسبة لروبرت سرجانت، فقد بيّن لنا سبب مجيئه إلى حضرموت سنة 1947 في مقدمة كتابه (نثر وشعر من حضرموت، 1951)، وذلك على النحو الآتي: “خلال عام 1947-1948 تم اختياري عضوا باحثا في شئون المستعمرات للقيام بالعمل في حضرموت؛ فتوجهت بصحبة زوجتي إلى تريم عن طريق المكلا، حيث مكثنا حوالي سبعة أشهر، قمنا خلالها بزيارة عينات وقسم وقبر هود وسيئون ..إلخ. وكان الهدف من أبحاثي تلك تقديم دراسة عن مظاهر الحياة والحضارة في حضرموت من خلال اللغة التي يتحدث بها أهل تلك البلاد (العامية)، وتقديم حقائق وبيانات صحيحة وثابتة ذات صبغة موضوعية، وليست ذاتية. وتنفيذا لهذا الهدف ركزتُ على جمع قصائد من الشعر العامي، وقمت بفحص ما عثرت عليه من مخطوطات في المكتبات. وقمت أيضا بجمع مجموعة من الوثائق المتعلقة بالقانون القبلي والتركيبة الاجتماعية للبلاد. وقد أجريت تلك الأبحاث والدراسات في مناطق الحضر والمدن أكثر من المناطق البدوية والقبلية “.
هذا الكتاب:
من المؤكد أن الباحث المستعرب روبرت سرجانت قد ركـّـز في دراساته وكتبه على جنوب الجزيرة العربية بشكل عام، وعلى حضرموت بشكل خاص. واليوم يعدُّ الغربيون تلك الدراسات والكتب مراجع موثوقة في شئون بلادنا: تراثها وتاريخها وأدبها ولهجتها. ومع ذلك، في الوقت الذي حظي فيه الضابط السياسي هارولد انجرامز باهتمام عددٍ من الباحثين والأكاديميين الحضارم، لم يهتم أحد منهم، حسب علمنا، بكتابات سرجانت حول حضرموت، وذلك على الرغم من أنها قد أسهمت كثيرا في توجيه الباحثين الحضارم ودفعتهم إلى الاهتمام بمخطوطاتهم وتاريخهم وتراثهم الأدبي واللغوي. وهذا ما دفعنا إلى تكريس هذا الكتاب المتواضع لتسليط الضوء على الكتب الأربعة التي تناول فيها سرجانت جوانب عدة من تاريخ حضرموت وأدبها ولهجتها. فبعد أن قدمنا بعض المعلومات عن شخصية المستعرب روبرت انجرامس، قمنا بقراءات تحليلية وتقييمية لكل من الكتب الأربعة التي كرسها لحضرموت؛ وهي: (نثر وشعر من حضرموت)، و(دراسات حول مصادر التاريخ الحضرمي)، و(البرتغاليون قبالة سواحل الجنوب العربي)، و(الصيد في الجنوب العربي).
وبما أن الكتاب الثالث (البرتغاليون قبالة سواحل الجنوب العربي) لم يُترجَم بعد إلى اللغة العربية، فقد ضمنا هذا الكتاب ترجمة لفهرسه ومقدمته، وترجمة لثلاثة أجزاء مهمة منه، قدم المؤلف في الأول منها ميناء الشحر في فترة الحملات البرتغالية (القرن السادس عشر)، وتناول في الثاني سياسة آل كثير وتحديدا السلطان بدر بن عبد الله بوطويرق تجاه البرتغاليين والأتراك، وقدّم في الثالث منها معلومات مقتضبة عن التجار اليهود والهنود والأفارقة في جنوب الجزيرة العربية.
وألحقنا بالكتاب تسعة نماذج من النصوص النثرية والشعرية (44 نصا) التي وردت في الجزء الثاني من كتاب (نثر وشعر من حضرموت). ونتمنى أن يحفز هذا الكتاب الباحثين الحضارم، لاسيما في مساقات الدراسات العليا في أقسام التاريخ واللغة العربية وآدابها، على القيام بدراسات تتناسب مع الأهمية البالغة التي تنطوي عليها كتابات روبرت سرجانت حول حضرموت.
والله من وراء القصد.
عدن 12 مارس 2023
Comments are Closed