موقع ثقافي تعليمي

آل مرتع والتحديث في هينن

آل مرتع وإخفاقات مسار التحديث في هينن حضرموت
بقلم مسعود عمشوش
إذا ما تفحصنا جيدا مسارات التنمية والتطور في بعض الدول المجاورة يتبيّن لنا أنه من الصعب أن تحقق مجموعة ما تطورا ملموسا في مجتمع تظل المجموعات الأخرى منه بعيدة عن ذلك التطور. فلا تطور في بيئة أو محيط كل ما حولها (أو حوله) متخلف. فلكي تقوم بريطانيا بتطوير عدن وتؤمن تطورها كان عليها أن تحتل ما حولها وتخضعه لهيمنتها، وأن تسعى لربطه عسكريا واقتصاديا بعدن.

ولم يكن بوسع عبد الرحمن بن شيخ الكاف ثم أخيه أبي بكر إنجاز التحديث الذي كانا يطمحان إلى تحقيقه في تريم رغم الأموال التي ضخاها للسلاطين والبدو وكذلك رغم الديات التي دفعاها لإصلاح ذات البين والتي استثمرها بذكاء انجرامس لحسابه وحساب ما سمي بـ(صلح انجرامس). وذات يوم، لم يتردد سلطان تريم في وضع عبد الرحمن بن شيخ الكاف في السجن عندما رفض الثري الكاف أن يدفع له مبلغا معينا. أما أخوه أبوبكر بن شيخ الكاف فقد قرر الرحيل من تريم والاستقرار في سيؤن التي كانت بيئتها أكثر تقبلا للتحديث و(الغربنة) من تريم. (انظر بحثنا الموسوم بت: شيخ بن عبد الرحمن الكاف مؤسس سنغافورة)
وإذا كان التحديث صعب المنال في تريم خلال العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين، كيف يمكن أن يكون سهلا في هينن التي تقع عند البوابات الجنوبية للربع الخالي؟ وفي اعتقادي هذا ما يفسر فشل المشروع التحديثي الذي بذل أولاد مرتع كل الأموال التي جمعوها في جاوا وسنغافورة من أجل تحقيقه.

hainan3

لقد زار المستعرب الهولندي فان در ميولن هينن عام 1932، واستقبله الشيخ عوض مرتع بنفسه بسيارته الخاصة في مدينة حريضة. وفي مساء وصوله يقول: (في كتابه حضرموت: إزاحة النقاب عن بعض غموضها): “قابلنا في ذلك المساء في مجلس ابن مرتع الكبير شيوخا بسطاء من المناطق المجاورة وكذلك شيخ بدو الصيعر”.
ويؤكد فان در ميولن أن هينن كانت حينها مدينة زراعية قديمة تعاني كثيرا من زحف الصحراء. ويحدثنا عن الجهود التي بذلها عوض مرتع في سبيل وقف زحف التصحر في هينن وتطويرها من جديد. ويصف ضواحي المدينة وما قام به عوض مرتع ، قائلا: “قضت الرمال الزاحفة على أشجار النخيل وانخفضت زراعة الذرة إلى الحد الأدنى، والقرى الصغيرة باتت شبه مهجورة وشاركت مدينة هينن القديمة المصير نفسه. فهي تقع في المستوى نفسه عند سفح الجبل، وتداعت الحصون وأبراج الدفاع العالية وصارت خرائب، كما حدث لمعظم المنازل في هذه المدينة التي كانت في وقت ما أهم مدينة في الطريق إلى اليمن. وقد عاد عوض مرتع إلى مسقط رأسه من سربايا [في جاوة] وهو عازم على إيقاف زحف الرمال. وقام بترميم بيت الأسرة، وبنى فيه طابقا جديدا، وأحضر معه من جاوا مضخة لرفع المياه، وقام بتركيبها فوق البئر التي يصل عمقها إلى سبعين قدما، وتضخ ثلاثين جالونا من الماء في الدقيقة، ومن المفترض، إذا عملت لمدة ثمان ساعات في اليوم، تستطيع أن تنتزع بعض الأفدنة من الصحراء الرملية وان تحافظ على حياة 200 نخلة. ومع ذلك أضطر ابن مرتع أن يقتنع بأن ما يفعله ليس إلا تعبيرا عن الحب لمدينته، وأن مضخته لن تنقذ هينن من التداعي، ومن زحف بحر الرمال الذي يبتلعها”.
وفي مطلع عام 1935 تعرفت الرحالة البريطانية فريا ستارك، في رحلتها الأولى إلى حضرموت، بعوض مرتع وأخوانه الذين كانوا يعيشون في هينن. فخلال زيارتها القصيرة لحريضة وعندل دعاها عوض مرتع لقضاء يومٍ في(التواهي)، دار الضيافة الذي شيّده في مدينته هينن، ويعدّ المكان الوحيد الذي يمكن أن يتوقف فيه الرحالة الأوروبيون في غرب حضرموت. ففيه توجد المصابيح الكهربائية وأجهزة الراديو ومختلف وسائل الراحة الحديثة. وقد قدمت فريا ستارك آل مرتع على النحو الآتي: “آل مرتع أربعة أخوان كوّنوا ثروة ضخمة في باتافيا (جاكرتا). ويعيش اثنان منهم هناك بينما استقر الآخران في بيوتهم في هينن. وقد استقبلنا هذان الاثنان بفرح، وقادانا إلى غرفة ضيوف ذات خمس نوافذ وبابين، ومدهونة بألوان عديدة بالطريقة الجاوية. وقد أخبراني أنهم شيّدوا هذا الدار لأنهم يستقبلون كثيرا من الضيوف في هذه المحطة الوحيدة في الطريق باتجاه الغرب. وتسكن عائلاتهم في بيتهم الثاني، مربع الشكل. وأخبرني حسن شيبة أن هذه الأسرة الغنية الوحيدة في هذه المنطقة. وهي محاطة بالبدو الذين يمكن أنْ يأتوا إليها في أي لحظة للضيافة أو النهب. لهذا ينبغي على آل مرتع أنْ يكسبوا ود البدو بالهبات ويحسنوا معاملتهم حتى حين لا يرغبون في ذلك”.
وتضيف: “وبعد تناول وجبة العشاء فتح عوض مرتع جهاز المذياع الذي وُضِع في السطح أمام غرفتي. وحين دخلتُ كان البدو الذين سُمِح لهم بالصعود قد تحلقوا في نصف دائرة. وكانت أساورهم الفضية وخناجرهم تلمع في الظلام، أما أجسامهم المصبوغة بالنيلة فلم يكن من السهل تمييزها. وبينما كانت رائحة الجمال التي ترغى تدل على المكان الذي تربض فيه قافلة شبوة كان صوت (هنا لندن) يخشخش في موجات متقطعة فوق هدوء شبه الجزيرة العربية”.
وبعد عام من زيارة فريا ستارك لهينن وصلها المستكشف البريطاني هاري سانت جون فيلبي (المعروف بعبد الله فيلبي). وكرس بضع صفحات من كتابه (بنات سبأ) للحديث عن هينن وآل مرتع. وعند وصوله كان عوض سعيد مرتع قاد عاد إلى جاوا، ويدير شؤون الأسرة أخوه محد سعيد مرتع الذي يقدمه فيلبي قائلا: “الشيخ محمد سعيد مرتع واحد من هؤلاء الرجال الذين تميزوا بحسن المعاملة فأصبحوا مثالا للتهذيب والتحضر، وهو عموما رجل جذاب ومضياف وخبرة واسعة وذكاء وقاد”. ويؤكد فيلبي أن عائلة آل مرتع كانت تقوم في هينن بالدور الذي كان آل الكاف يقومون به في تريم قبل الحرب العالمية الثانية. فبعد أن يذكر أن هينن تقع في منطقة السلطنة القعيطية يقول: “وسلطنة القعيطي، نسبة للسلطان الذي هو فعلا الحكومة، التي يطلق عليها دائما دولة- تُمثل هنا بضابط شرطة يقود عددا من الجنود، لكن الجهة المؤثرة في الشؤون المحلية هي شريحة التجار من عائلة آل مرتع، ويعد الشيخ محمد سعيد مرتع كبير آل مرتع. توجهنا إلى منزله عندما أقمنا لنعسكر في مكان مبتل بمياه المطر أمام المدينة. وقد وجدنا المبنى مؤثثا بسخاء بالسجاد والأرائك. وأخنا قسطا من الراحة والقهوة والشاي. وبعد ذلك دعاني الشيخ محمد إلى غرفة ملاصقة ومؤثثة بمنضدة وكراسي جلبت من جاوا”.
وكما فعل فان در ميولن، يتحدث فيلبي عن المخاطر التي تهدد هينن في تلك الفترة. لكن بعكس التفسير الذي يقدمه فان در ميولن، يعلل فيلبي تدهور هينن بالتصرفات السيئة للناس أنفسهم، فهو يكتب: “في هينن، كنت نادرا ما أجلس لتناول الشاي دون ان يأتي زوار آخرون يجلسون حولي، بعضهم أذكياء، لكن هنالك البسطاء من أقارب آل مرتع الكبير، الذي كان شقيقة عوض يعمل [الآن في باتافيا جاكرتا] مرشدا وصديقا وسائقا لفان در ميولن وفون فايسمان، حينما زارا هذا الجزء من حضرموت قبل بضع سنوات، وفيما يبدو أنهما وجدا هينن في حالة متقدمة من الدمار والضعف التي عزواها إلى الزحف المستمر للصحراء في الوادي. لكن، في نظري، السبب الحقيقي لهذه الفترات من تدهور الحضارة يعود إلى الشر الذي يفعله الناس والذي يبقى بعدهم”.(بنات سبأ ص198).
ومن المؤكد أن أبناء سعيد مرتع لم يكونوا يريدوا لمدينتهم هينن إلا كل الخير، فهم قد أنفقوا كل الثروة التي جمعوها في جاوا وسنغافورة في سبيل تطويرها وتنميتها. لكن من الواضح أن مشروعهم التحديثي قد أخفق، كما أخفقت كثير من مشاريع التحديث والنهضة في حضرموت. يا ترى ما هي أسباب تلك الإخفاقات؟؟؟

Comments are Closed