بداية للبوح
Posted by:مسعود عمشوش | فبراير 9, 2016
شيماء باسيد
اليوم عيد ميلادي ال 28 ..أردت أن أحتفل به بصمت ولوحدي وكما ينبغي تماما وبعيدا عن صراخ الواقع حولي وداخلي ..زرتُ مدرستي الإبتدائية في الحوطة على أيامنا كنا نسميها مدرسة الشهيد (المجعلي) تقع في حارة سوق السمك نسميها ( سوق الصيد) , لازالت في أنفي رائحة السمك القوية تلك ,,كم سرقنا من زجاجات عطر من أمهاتنا واغتسلنا بها لترحل عنا تلك الرائحة ولافائدة ..بقت عالقة في الذاكرة حتى الان ..!
أذكر أيام طفولتي الأولى كان الطريق الذي أقطعه من حارتنا ( الجامع) الى المدرسة هو الطريق الخالد في الذاكرة والمكون الأول والأعمق لشخصيتي ..على امتداده أزقة وقصص ومغامرات امتدت منذ الصف الأول حتى الثانوية , تغيرت المدرسة ولم يتغير الطريق ولم تتغير بعد الطفلة بداخلي ..!
بحثت في سور المدرسة عن نقش قديم لم أجده ,,تغير السور تماما لكن ذكرياتي لم تزل عالقة في تلك الحارة ,,عُجنت بترابها , بتفاصيل أغلب بيوتها التي لم تتغير ..في وجه صاحب غزل (شعر البنات) الذي كان ينتظرنا عند باب المدرسة ,,رأيته اليوم عجوزا يمشي بصعوبة ..نظرت الى قدميه لم تزل متسخة ,,أغمضت عيناي وتذكرت تلك الأيام الجميلة ..أكملت طريقي ,,ضاقت الجدران بين البيوت لم تعد كما كانت قبل نجري فيها صغيرات ..مشاغبات أذكر أنني كنت ضمن شلة شغلت الدنيا وأزعجتها ..كنت الحلقة الأضعف فيها لكن الجميع أبقى على عضويتي فيها لسنوات طويلة تتعلق بكوني كنت العضو الأذكى فيها وكنت لا أمانع من أن أحل واجبات مادة الرياضيات الصعبة للجميع , فقط لأبقى معهم في الشلة ولأحظى بصديقات ومقالب تموتني ضحك كل يوم ..كانت مصالح طفولية ( برئية جدا) تغيرت حين كبرنا شوي وبقي ارتباطنا أعمق وأشمل وغير مشروط ..
تلك البراءة حتى في الإزعاج لم يزل مدرسونا القدامى يتذكروها لا بل كما قالت لي إحداهن مرة ..نادمون على عدم إحتضانكم بحنان وبمعاملة حسنة , كل الأجيال التي لحقتكم كانت بائسة حقا , نتذكركم بحسرة وكأنكم كنتم آخر جيل محترم فعلا . تذكرت بكلماتها هذه فيلم ( آخر الرجال المحترمين) وقصصت لها قصته عن الأستاذ فرغاني (نور الشريف) الذي كان يريد الواقع أن يمشي على خُلق وبالمسطرة والقلم لكن قلبه انفطر لفداحة الفرق بين المبادىء والأخلاق التي يعلمها تلاميذه وبين مجتمعاتهم التي يعيشون فيها ..المهم ضحكت طويلا معها ومضيت .
بقت رغبة زيارة مدرستي تلك تلح علي وبشدة وانتظرت ( اليوم) يوم ميلادي لأهب نفسي هدية مميزة ..أطلقت العنان لقدماي تدور بي في تلك الحارة , ألقت بي في أحضان مُعلمتي القديمة ,,بكينا لا أدري من بدأ البكاء أولا ! لكنها المرة الأولى التي أراها مابعد الحرب .. احتضنتي طويلا , أخبرتني كم هي فخورة بي , أخبرتها أن طفلتها الصغيرة في داخلي لم تكبر رغم كل هذه السنين الصعبة التي مرت ..شربنا الشاي , ضحكنا , دعتني لمشاهدة آثار الحرب في منزلها المتواضع , أخبرتني قصتها في النزوح .. قلت لها أني سأكتب عنها يوما ما وسأتي لها بما كتبت لتقرأه .
مشيت آخر زقاق قبل خروجي من تلك الحارة ..ضاقت روحي عند عبوره ..( الباب الأزرق) الذي يقف دوما على يساري ..ندخله دون استئذان ..نأكل ونشرب مع أهله ..البيت الذي لابد أن نزوره قبل دخول المدرسة وبعد خروجها ..تلك الزيارة كانت فرضا بالنسبة لنا كل يوم ولسنوات الدراسة الطويلة تلك ..!
لأول مرة عصر اليوم أمر بجانبه دون الدخول إليه , لا أجرؤ ذلك ..إن دخلته لن أرى صديقتي فيه ..رحلت في الحرب دون أن نودعها , تفرقت بنا السبل كلا منا هرب الى البعيد نازحا ..وماتت هي وحيدة متألمة دون صديقاتها حولها ,, دون أن تقول لنا (باي) بصوتها المميز وابتسامتها الدافئة ..
ارتكبت حماقة ,, ربما نعم .. وربما لا ..وربما لابد من صدمة ما في مسار حياتك لتفيق فمنذ أن انتهت الحرب في لحج وأنا اتحاشى المشي لتلك الحارة حتى لا أمر بذلك الباب الأزرق واصطدم بكل ذكرياته الخانقة داخلي ..
مررتُ اليوم ..ولم استطع دخول البيت ولربما لو مررتُ في المرة القادمة سأتمكن من فعلها ..ولربما ايضا لا أتمكن الا في العام القادم ..ولربما لا أتمكن مطلقا !
أكبر سنة أزداد ثباتا على هذه الأرض الرخوة , يتفلت أصدقاء الطفولة من بين أصابعي ,,يتساقطون كذكرياتي الملقاة على الأرض , ..عصارة السنوات الصعبة هي ( أنت ) الأن بكل مافيك لتبقى الذكريات رغم ( ألمها ) الأغلى ورغم ضعفي أمامها لكنها هي وحدها من تمدني الأن بالقوة والشجاعة للحياة وسط كل هذا الموت المحيط !
الأصدقاء والصديقات ..لكم كل الحب مني وشكرا لكل رسائلكم وتهانيكم الدافئة ..!
شيماء باسيد
9 فبراير 2016م
Comments are Closed