L A T E S T P O S T S
السنوات الأخيرة للوجود البريطاني في الجنوب العربي
وادي عدم وحاضرته ساه
حريضة مقر (سين) آلهة حضرموت القديمة
عينات الحاضرة الروحية لحضرموت ويافع
بور حاضرة أصحاب الرّس ونبيهم حنظلة
صيف حاضرة حضرمية تستعيد ألقها
(رحلتي إلى النـِّـيد) لعمر عبد الله العامري
ما مدى قدرة قيادات فروع الأحزاب اليمنية في حضرموت في الدفاع عن استقلال حضرموت وحقوقها؟
هل لدى كبار مسؤولينا إدارات مراسيم وعلاقات عامة فعّالة؟
قوت الطالحين في حضرموت
جدة وعدن ومسقط
فهرس ومقدمة كتابي الثامن الذي سيوزع في المكتبات قريبا بإذن الله
المقدمة
منذ بداية عصر النهضة الأوروبية في القرن الخامس عشر، شرع الأوروبيون في السفر داخل القارة الأوروبية وخارجها. فاتجه جزء منهم غرباً صوب الأمريكتين. وفضّل بعضهم الإبحار باتجاه الشرق، لاسيما إلى البلدان التي تطل على السواحل الجنوبية والشرقية للبحر الأبيض المتوسط. ومنهم من واصل السفر في اتجاه الشرق الأقصى، ومن بين هؤلاء من توقف في موانئ الجزيرة العربية، وحاول بعض المغامرين الدخول إليها لزيارة مدنها أو استكشاف صحاريها.
فقد جذبت شبه الجزيرة العربية اهتمام كثير من الرحالة والحجاج والتجار والمغامرين والباحثين من مختلف أرجاء العالم، وذلك لما تمتلكه من مزايا دينية وجغرافية وحضارية واقتصادية. فهي مهد الرسل والديانات السماوية. وجعلها موقعها الجغرافي مركزا للطرق الرئيسة للتجارة في قلب العالم القديم. وفيها ظهر عدد من أشهر الحضارات في العالم. وإذا كان جنوب شبه الجزيرة العربية يعد اليوم أحد أهم مخازن النفط، فهو كان في الأمس أهم مراكز تصدير البخور الذي تحتاجه المعابد في روما وأثينا.
وحينما برزت فرنسا بين الدول الاستعمارية الكبرى مع حملة نابليون على مصر سنة 1798، لم تكن الجزيرة العربية تقع في إطار اهتمامها، أو ضمن مناطق نفوذها المباشر. ومع ذلك فقد اهتم الفرنسيون بسواحل البحر الأحمر، والجزيرة العربية بشكل عام، لاسيما بعد الاحتلال الفرنسي للجزائر عام 1830، والاحتلال البريطاني لعدن سنة 1839. فمن المعلوم أن عددا من الرحالة والمغامرين الفرنسيين قد وصلوا إلى شبه الجزيرة العربية خلال القرن التاسع؛ جاء بعضهم في إطار عمله في الجيش المصري، مثل تاميزييه الذي كان يشغل وظيفة كاتب للبعثة الطبية في الجيش، ويسعى إلى زيارة مكة المكرمة بإيعاز من حكومته، وتعرف على أمين مفتاح الكعبة. وقد كتب سردا مثيرا لرحلته نشره عام 1840 بعنوان: رحلة في الجزيرة العربية.(1) وفي سنة 1842 زار الرحالة الفرنسي ليون روش منطقة الحجاز، متنكرا في ملابس إسلامية، وسرد رحلته في كتاب (32 سنة في الإسلام). كما وصل إلى الحجاز في عام 1854 المغامر الفرنسي شارل ديدييه، وطاف بين مختلف موانئ البحر الأحمر، وتحدث عنها في كتاب مهم نشره بعنوان (رحلة الى الحجاز في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي 1854)، قام بترجمته الدكتور محمد خير البقاعي.(2)
وكثيرة – في الواقع- هي تلك الكتب والدراسات التي ألفها الرحّالة الغربيون عن الجزيرة العربية. بعضهم كتب عنها بشكل عام، ومنهم من اكتفى بتناول جزء منها أو إحدى مدنها. وعلى الرغم من الأهمية الكبيرة التي تنطوي عليها الكتب والدراسات التي ألفها الرحّالة والباحثون الأجانب عن شبه الجزيرة العربية، فحتى اليوم لم ينل معظمها الاهتمام المناسب من المترجمين والباحثين، لاسيما تلك التي كتبت منها باللغة الفرنسية، باستثناء الجهود التي بذلها الدكتور سلطان بن محمد القاسمي في هذا المجال.(3) ولا ريب في أن قلة عدد الباحثين والمترجمين الملمين باللغة الفرنسية من أبناء الجزيرة، وطغيان الثقافة الإنجليزية والأمريكية في المنطقة يعدان من أبرز أسباب ذلك الإهمال من قبل المؤرخين والباحثين. وقد دفعنا إيماننا بأن الاهتمام بالوثائق الفرنسية سيساعد الباحثين والمؤرخين العرب على الخروج من دائرة القراءة الأحادية، والاعتماد على الوثائق الإنجليزية فقط عند كتابتهم لتاريخنا الحديث والمعاصر، قمنا خلال العقد الأخير من القرن الماضي بعدد من الدراسات والترجمات اعتمدنا فيها على النصوص الفرنسية التي كتبت حول الجزيرة. منها بحث بعنوان (قراءة فرنسية للاحتلال الفرنسي لعدن سنة 1839)، وترجمة (وثائق الأراضي الفرنسية في الجزيرة العربية).(4)
ومنذ مطلع هذا القرن تنبهت بعض المراكز البحثية في الجزيرة العربية لأهمية ما كتبه الفرنسيون حول الجزيرة، وبادرت إلى تنظيم عدد محدود من الندوات التي ترمي إلى تحفيز الباحثين لجمع الوثائق الفرنسية المتعلقة بالجزيرة العربية وترجمتها ودراستها، منها: (الندوة العلمية الأولى للجزيرة العربية والخليج العربي في الوثائق الفرنسية خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلاديين)، التي عقدتها دارة الملك عبدالعزيز بالتعاون مع الأمانة العامة لمراكز الوثائق الخليجية وجامعة السوربون في أبو ظبي وباريس، في مايو من عام 2004.
ومن أشهر الرحالة الفرنسيين الذين زاروا الجزيرة العربية خلال القرن التاسع عشر الأديب الدبلوماسي الكونت جوزيف آرثر دي غوبينو (1816-1882). وبما أن هذا الرحالة لم يحظ باهتمام أي باحث عربي حتى اليوم، فقد اخترنا أن نكرس له هذا الكتاب الذي يدخل في إطار اهتمامنا بما كتبه الرحالة الغربيون عن الجزيرة العربية بشكل عام. وقد رأينا أن نركز على دراسة الصورة التي رسمها دي غوبينو لثلاث مدن تقع على سواحل الجزيرة العربية: جدة وعدن ومسقط، وذلك في الفصول الثلاثة (الرابع والخامس والسادس) من المجلد الأول من كتابه (ثلاث سنوات في آسيا Trois ans en Asie). وقد قمنا بأول ترجمة عربية لهذه الفصول إلى اللغة العربية.
بعد أن حاولنا، في الجزء الأول من الكتاب، إزاحة النقاب قليلا عن شخصية الكونت جوزيف آرثر دي غوبينو، لاسيما عن أفكاره العنصرية والاستعمارية والعوامل التي دفعته لزيارة جدة وعدن ومسقط والحديث عنها، وأهم ملامح كتابه (ثلاث سنوات في آسيا)، قمنا في الجزء الثاني، بعرض الأبعاد الأثنولوجية/العنصرية التي ركز عليها الرحالة دي غوبينو في تصويره لمدن جدة وعدن ومسقط. وفي الجزء الثالث تناولنا الأبعاد الاستعمارية: الاقتصادية والسياسية، التي تبرز في تقديم دي غوبينو لتلك المدن الساحلية العربية. وفي الخاتمة قمنا بتقييم موجز لمدى موضوعية المعلومات التي قدمها جوزيف آرثر دي غوبينو عن تلك المدن، وحاولنا كذلك الكشف عن الأسباب المحتملة لعدم الاهتمام به في الدراسات العربية.
وفي نهاية الكتاب ألحقنا النص الكامل للترجمة العربية التي أنجزناها للفصول الثلاثة المكرسة لجدة وعدن ومسقط في كتاب (ثلاث سنوات في آسيا). فإذا كنا قد قمنا بتنصيص صفحات طويلة منها في ثنايا العرض والتحليل فهناك أجزاء أخرى مهمة ظلت غائبة عن الدراسة.
والله من وراء القصد
أ.د. مسعود عمشوش
عدن 2013
المحتويات
مقدمة ……………………………………………………………. 5
أولا : تقديم دي غوبينو
1/1- مسار الحياة
1/2- دي غوبينو العنصري
1/3- دي غوبينو الاستعماري
1/4- دي غوبينو والعرب
ثانيا- الأبعاد الأثنولوجية لصورة جدة وعدن ومسقط
2/1- تعدد الأجناس في جدة وعدن ومسقط
2/1/1- العرب في جدة وعدن ومسقط
2/1/2- مسقط وعدن الهنديتان
2/1/3- الأفارقة السود
2/1/4- الأوروبيون
2/2- العلاقات بين الأجناس
ثالثا – الأبعاد الاستعمارية لرؤية دي غوبينو لجدة وعدن ومسقط
3/1- البعد الاستعماري السياسي
3/2- البعد الاستعماري الاقتصادي
رابعا- الأبعاد الفنية
4/1- وصف المدن
4/2- تقديم شخصيتي السيد سعيد وكامل باشا
4/3- السخرية والبعد الأسطوري والديني
خامسا- الترجمة
5/1- جدة
5/2- عدن
5/3- مسقط
الخاتمة
المصادر والمراجع
الخطاب وفوضى الثورة الخلاقة
الخطاب وفوضى الثورة الخلاقة
سهام القحطاني – السعودية
عندما نتحدث عن الخطاب في ظل ثورات الربيع العربي لا نستطيع أن نغفل ثلاث مرتكزات أساسية أنبنى عليها ذلك الخطاب وهي؛ نوع الفئة المستهدفة ونوع الرسالة ونوع الوسيلة.
1-نوع الفئة المستهدفة.
ركز خطاب الثورة على فئة الشباب وشحنهم للخروج إلى الشارع، واختيار الشباب لثلاثة أسباب ، السبب الأول أنهم هم أكثر المتضررين من الوضع العام الذي أنتجته الأنظمة القمعية، والسبب الثاني سهولة التواصل مع الشباب كونهم يتصفون بالعلم والخبرة في استخدام تقنيات الحواسب وآلياتها الإجرائية مثل الفيسبوك وتوتير والمدونات ، و السبب الثالث أنهم الغالبية في المجتمع.
2-نوع الرسالة. التشجيع على نزول الشارع و التحريض على المشاركة و توزيع الخطط والمهام وربط المعلومات ونشر الصور وتداولها.
3-نوع الوسيلة الحاسوب وآلياته مثل الفيسبوك و توتير والمدونات، و تتميز هذه الوسيلة بسرعة التغطية الإعلامية المصورة ونشرها و تداولها وما هو يزيد من فاعلية قوة تأثير المعلومة، أنها تُسهل الحصول على أكبر عدد من المؤيدين.
و من أجل الدور الكبير الذي قامت بها صفحات الفيسبوك سميت ثورات الربيع العربي بثورات الفيسيبوك.
وتلك المرتكزات أثرت بدورها على «نص الخطاب» «أي إنتاج العلاقات الاتصالية واستقبالها» الذي خرج من فردية الفاعل إلى تشارك الفواعل مما أضر بأصل القيمة النصية الصدق و الحقيقية لمصلحة الانفعال والتطرف.
كما أثر على «لغة الخطاب المتداول» الذي مال إلى العامية والإيجاز والترميز أو ما يسمى بخصائص كفاية السلوك الاتصالي التي تمكن الفاعل من القدرة على اشتقاق منطوق يناسب الموقف الاقتضائي لإنتاج تفاعل جمعي.
يتشكل الخطاب من خلال « استراتيجية القيمة» و لا وتبرز تلك القيمة في الخطاب بصورتها المجردة، إنما من خلال مجموع العلاقات والانفعالات.
واستراتيجية القيمة في خطاب ما قبل الثورة تعتمد في تحولها على المرجع الاجتماعي، كما تلتزم بضابط المعتقد.
من المبكر أن نحدد « نوع الاستراتيجية ما بعد « الذي سيتشكل في ضوئها خطاب ما بعد الثورة.
لكن بصورة مبدئية يمكننا القول أن هناك استراتيجيتين يمكن أن تشكلّ أحدهما خطاب ما بعد الثورة، أو أن يُشكلان معا بالتوازي المعاكس خطابين مختلفين.
الاستراتيجية الأولى التي ستعتمد على «ثيمة ما بعد سقوط الأبوية».
وخطاب هذه الاستراتييجية سيكون ممثلا لخصائص الفوضى الخلاقة من إسقاط الحدود المعرفية للمفاهيم والعلاقات و هو ما يجوّز لها إلغاء الجذر الفكر للقيمة
والتخفف من أخلاقية المبدأ و تهميش المرجع و عدم الالتزام بضابط المعتقد في ممارسة تفكيكاتها من باب تقويض المشروع المركزي أو المتبقي من السلطة الحاضرة أو ما يدخل في حسبان المشروع الأبوي.
والاستراتيجية الثانية ستعتمد على « ثيمة ما بعد الاصطفائية» في ظل فوز التيارات الدينية ووصولها لفاعلية الحكم، وسيتصف خطابها بأحادية الإطار المعرفي للمفاهيم والعلاقات وهو ما سيُنتج تطرف رؤيتها الفكرية وما سيستتبع ذلك من إقصاء للرؤية المخالفة.
وتشكل هذين الخطابين بعد الثورة بالتوازي سيؤدي إلى العنف الفكري بينهما وسيُنشئ صراعا بينهما على «مفهوم حرية الفكر والإبداع والفن و معاييره وحدوده المأمونة» وصراع على «المرأة وحدود حقوقها».
وهو تشكّل بلاشك لن يتم إلا في ضوء الفوضى الثورية للقيم والمعايير.
ويمكن تعريف الفوضى الثورية الخلاقة بأنها «الهدم الواعي لقوانين وضوابط السلم المعرفي وبنية حدود التصور للمدونة المفاهيمية التي تشكل أفكار أفراد المجتمع وعلاقاتهم وأفعالهم؛ لتجديد المدونة الفهمية للمجتمع من خلال إعادة بناء السلم المعرفي و صياغة بنية حدود التصور، وإنتاج منظومات إجرائية جديدة».
وتمر الفوضى الخلاقة في ظل الثورات الشعبية بأربع مراحل هي مرحلة الهدم والإزاحة ومرحلة البحث ومرحلة الاختيار ومرحلة إعادة البناء.
> مرحلة الهدم والإزاحة، وتقوم هذه المرحلة على هدم بنية و تفكيك السلم المعرفي الذي يشكل المفاهيم وينظم توزيعها الدلالي.
تتكون المفاهيم من جزأين حد تصور ومعيار تقويم، وبالتالي أي هدم لمدونة فهمية أو بناء لمدونة فهمية ، يجب أن يهدم أو يبني قيمتين، قيمة البنية وقيمة السلم.
والبنية في المدونة الفهمية هي «مصدر حدود التصور» والسلم في المدونة الفهميّة هو «مصدر معيار التقويم».
وكل حد تصور في البنية يقابله بالتوازي معيار تقويم في السلم المعرفي.
ولذلك فإن الإزاحة في مرحلة الهدم يجب تراعي هذا الأمر، أي شمول إزاحة حد التصور بمصاحبة المعيار التقويمي الموازن لها في السلم المعرفي، واضطراب الإزاحة الثنائية للحد أو للمعيار لأن يحقق «قيمة الخلاقة» في مرحلة إعادة البناء؛ لأن الباقي من الثنائية سيعق ا لإضافة، فلو بقي حد التصور لن يقبل إضافة معيار التقويم مما سينتج اضطرابا في بناء السلم المعرفي.
ولو بقي معيار التقويم لن يقبل إضافة حد تصور مما سيُنتج اضطرابا في تأليف البنية.
وكذلك الأمر في عملية البناء فالاكتفاء بطرف من الثنائية إضافة حد دون معيار تقويمي موازن لها، أو إضافة معيار تقويمي دون حد تصور موازن له، سيؤدي كل منهما إلى اضطراب إعادة بناء السلم المعرفي والبنية المؤلفة لحدود التصورات.
> مرحلة البحث، وهذه المرحلة تعتمد على البحث تحت شرطية «الموازن المتكافئ»
والبحث يجب أن يسير على أربعة مستويات ضمن شرطيتين الشرطيّة الأولى « سلامة الهوية العامة» و الشرطية الثانية تحقق «الموازن المتكافئ» وهي.
مستوى حد التصور.
– مستوى معيار التقويم.
– مستوى تشابه المرجع.
– مسjوى واقعية الناظم.
– مستوى قبول شكل التمثيل المقترح.
وهذه المرحلة تعترضها الكثير من الصعوبات، لأنها تحتاج على مستوى الفاعلية التنفيذية مؤهلات خاصة، أهمها عند التحيز لأي تيار فكري أو ديني أو سياسي أو أقلي.
وتكمن صعوبة تحقيق ائتلاف موازنات متكافئة تتوافق عليها المستويات الأربعة أو تشملها.
وأي ثنائية أو ثلاثية تؤدي إلى صراع في المجتمع.
ولذلك تتطلب هذه المرحلة الالتزام بقانون المقاربات؛ لأنه يُسهلّ لنا التحقق من سلامة رباعية الموازن المتكافئ .
ولصعوبة البحث في ظل الشرطيتين السابقتين قد تطول مرحلة البحث أو مرحلة «فجوة عدم الاستقرار».
– مرحلة الاختيار؛ وهي تتضمن «الاستقرار على مجموع من الموازنات المتكافئة الملتزمة بشرطية الهوية العامة، والصالحة لإنتاج تجربة اجتماعية جديدة، والمعوّضة للمُزاح من المدونة الفهمية».
أما مرحلة إعادة البناء، فهي «سلسلة من الإجراءات لدمج الموازنات المتكافئة في المدونة الفهمية و دعم قوانين إنتاج التأثر والتأثير».
وسلسلة الإجراءات تلك هي التي «تعيد بناء قوانين وضوابط السلم المعرفي و بنية حدود التصور للمدونة المفاهيمية و التي ستشكل أفكار أفراد المجتمع وعلاقاتهم وأفعالهم وتُنتج منظومات إجرائية جديدة».
الأسئلة الثقافية
الأسئلة الثقافية.. جيّدها ورديئها
لمياء باعشن السعودية
تبدأ الكاتبة المتميزة سهام القحطاني مقالها ( المنشور في العدد 262ا من الثقافية بتاريخ الاثنين 26 ,ذو القعدة 1429) بعنوان يحمل سؤالاً شيقاً وهو: (هل لدينا فلسفة للسؤال الثقافي؟!)، ولكنها تستهل المقال ذاته بمقولة بين قوسين تبدو وكأنها اقتباس يقرر أن: (السؤال الثقافي الرديء هو الذي يصنع الثورة الثقافية)!..
هكذا يظهر للقارئ أن المقال لن يحاول الإجابة عن السؤال المطروح في العنوان، وأن صيغته التشويقة لن تخدم أغراضه، وأننا لن نعرف حتى نهاية المقال إن كان لدينا فلسفة للسؤال الثقافي أم لا.
بل إن القارئ وبعد أن ينهي المقال سيكتشف أن النقاش الذي انطلق من مقولة البدء هذه سيعود إليها مخالفاً بذلك كل المحاذير التي تضعها الكاتبة من استخدام الأسئلة الجيدة، فهي تفرض مقولتها وتفرد لها مساراً محدداً لتثبتها، بل (لترفعها) إلى مقام التسليم بعد إسقاطها مقولة سابقة عن السؤال الجيد جاءت في كتاب (ثقافة الأسئلة) للدكتور عبد الله الغذامي. بدلاً عن التصدي للإجابة عن سؤال العنوان ينصرف الجدل إلى إثبات مقولة الاستهلال ومحاولة إقناع القارئ بزاوية نظر الكاتبة بخصوص أفضلية السؤال الثقافي الرديء على السؤال الثقافي الجيد، والتي تحاجج بها رأي الدكتور عبد الله الغذامي القائل بأن صناعة السؤال الثقافي تتطلب توفير خلفية فنية ومنطقية تمكنه من استجلاب جواب ثقافي عميق.
ترفض سهام القحطاني السؤال الجيد على أساس النتيجة التي يقود إليها، ففي منطقها هو سؤال تقريري تسييري يضمر إجاباته ويقود المسؤول (أي الشخص المتلقي للسؤال) على مسارات محددة إلى مناحي فكرية مقصودة. هذا النوع من الأسئلة تعتبره سهام (تشريع ديكتاتوري) فهو يحتوي على مؤامرة قصدها السيطرة على فكر المسؤول وينم عن خبث السائل وذلك بإيهامه المسؤول أنه توصل للإجابات بطريقته الخاصة بينما كان مُستغلاً ومُقاداً دون اختيار حقيقي. هذا هو (التحجيز) الذي تتلمسه الاستاذة سهام في فكرة تثقيف السؤال عند الغذامي وتعترض عليه بشدة لأنه يؤدي إلى الأحادية الفكرية، فيحنما لا نحيد عن الطريق الممهدة مسبقاً تتحول الأسئلة إلى حوائط وجدران حابسة لا تسمح بالتجاوز ولا التخطي، وبالتالي تختل اجتهادية البحث مما يؤدي إلى هيمنة القطب الواحد ومن ثم إلى تجميد (الخلية الوراثية للتجربة الثقافية).
وعلى ذلك فإن الأستاذة سهام ترجح طرح الأسئلة الرديئة كونها الأقدر على إنتاج الإشكاليات والجدليات التي يتولد عنها الكثير من الإستراتيجيات والاستنتاجات الثقافية المثيرة والمثرية. ولكن في غياب تعريف واضح لمفهوم الرداءة، لا بد أن نتساءل: ما هو المقصود بالسؤال الرديء؟ هل ترادف الرداءة السوء أو السخف أو السذاجة؟ لا أعتقد، وإلا تحول السؤال من إسقاط وترفيع اليقينيات إلى الحبو على أعتاب البديهيات. ما تطمح إليه الكاتبة هو السؤال الحر، وليس الحر بمعنى البدائي الفوضوي المنفلت من كل نظام، بل ذلك الذي يفتح على آفاق غير مطروقة، لذلك فهي ترفض استغلالات السلطة الفكرية التي تحرم العقل متعة الإثراء التأويلي، لكنها تضع للحرية قيوداً قائلة: (إن حرية التأويل أو التصرف في التحليل مقيدة بالحدود التاريخية للظاهرة). ورغم ذلك فإن سمات هذا السؤال تبقى هلامية، فكل ما نعرفه جيداً أنه نقيض للسؤال الجيد، لكن الفارق بينهما قائم – كما ذكرت سابقاً – على ناتجهما، فالجيد يخفق اجتهادية البحث ويعيق آليات التفكيك والتأويل لأن محتواه مغلق، بينما يوفر الردئ قاعدة شكية تهز السلم المعرفي وتعيد تشكيل اليقينيات ترفيعاً وإسقاطاً.
باعتقادي أن المرحلة السابقة لما ستفعله الأسئلة الجيدة والرديئة هي مرحلة إعداد وصياغة وتوجيه تلك الأسئلة، لكن الاستاذة سهام لا تتفق مع الدكتور الغذامي في الطريقة التي يقترحها لتثقيف السؤال، فهو يتمسك بضرورة توفير الخلفية الفنية والمنطقية في صناعة السؤال، بينما ترى هي أن هذا التمسك (يحول السؤال إلى مشكلة بنيوية تغيّب محتوى السؤال)، كما أنها ترفض إعطاء التشكيل البنيوي أي قيمة في تحديد صفات السؤال وإلا (تساوى مضمون السطح مع مضمون السقف)، كما تقول، أي تسطّح السؤال وتجرّد. نستطيع أن نستنتج إذاً أن ما يزعج الأستاذة سهام في طبيعة السؤال الجيد أمران: أن له خلفية منطقية، وأن له بناء شكلي محدد.
لكن فقرة لاحقة في المقال تربك هذا الاستنتاج، بل وتدفع بالسؤال الرديء إلى مدارات السؤال الجيد فيبدو أنهما يتشابهان أكثر مما يختلفان. تعتقد الأستاذة سهام أن مواصفات السؤال الرديء:
(تختلف وفق خلفياتها المفترضة، اختلاف يعود إلى طبيعة المحتوى وأثر الخلفية المستخدمة، أي التقنيات اللغوية في صياغة السؤال والمضامين والتغطية الفلسفية التي توفرها تلك الصياغة لإتاحة بواطن فكرية تنمو بالتقادم فوق جدار المضامين العامة، مما يُراكم محتوى التجربة الثقافية، ويسهل ممارسة تفكيك الخلية الوراثية للتجربة الثقافية ثم الثورة الثقافية، وذلكم الإثراء لا يتم إلا في ضوء اختلافنا في صياغة بنية السؤال والذي يترتب عليه تأويلاتنا للرؤى المختلفة التي نصنفها كإجابات)!!! مفردات هذه الفقرة (خلفيات مفترضة، الخلفية المستخدمة، التقنيات اللغوية، صياغة السؤال، التغطية الفلسفية، بنية السؤال) كلها توحي بأن للسؤال الرديء أيضاً خلفية منطقية وبناء شكلي. كأن الأستاذة سهام هي الأخرى تشترط للسؤال الرديء خلفية مفترضة ومستخدمة وتقنيات لغوية صياغية كتلك التي اشترطها الغذامي لسؤاله الجيد!!
ما الفرق إذاً؟ هل ينطلق أي من هذين السؤالين من نقطة الصفر؟ من البديهي أن توافر الخلفيات أمر حيوي وإلا قاد السؤال إلى متاهة لا عودة منها، وهي حرية التهلكة التي لا يطمح لها عاقل، لذلك تقول سهام أن تحرر السؤال الرديء من السلطة القامعة: (لا يُلغي وجود تصور مبدئيّ لخلفية الدليل العقلي تقوم عليه عمليتا الإسقاط والترفيع). الخلفيات ضرورة للإضافة والحذف، للترفيع والإسقاط، إذ إن هذه العمليات تستدعي غربلة اليقينيات حتى يعاد تصنيفها، فالعلم بالثوابت الثقافية ضروري لإذابة ثباتها. وتتفق سهام مع هذا المنطق قائلة أن السؤال الردئ يعمل كمحرك: (بحث أولي لبنى الجدلية.. يُعين على التعرف على تاريخ أفكار الجدلية، وهي معرفة مهمة لاستثمارها (كخلفيات تأويل) في عملية الإضافة والتحول التي يقودها الفعل التفكيكي كمرحلة لاحقة).
حسناً، ها قد رأينا أن للسؤالين خلفية، فهل يتميز أحدهما على الآخر من ناحية الصياغة الشكلية؟ إن الخلفية المنطقية تصب في محتوى السؤال فهي منطلقاته وأسسه التي تحدد مراحل ما بعد الصفر. لكن طريقة طرح السؤال هي التي تسبغ عليه صفة الذكاء، فالسؤال الذكي يظهر ويخفي في آن دون أن يقدّس أو يجهّل السائل أو المسؤول، سؤال يحمل مضامين المعلومات السابقة ويضعها كعلامات استرشاد بينما يترك مساحات إستيعاب المجهولات اللاحقة. السؤال الحر الذكي هو ذلك السؤال الذي أُحْسنت صياغته كي يؤدي غرضه.
وبهذا نصل إلى المنطقة الشائكة في المقال: الغرض. تفترض الأستاذة سهام أن السؤال الجيد، لأنه ينطلق من خلفية منطقية واهتمام بالبنية الشكلية، له قصدية مسبقة تهدف إلى تفريغ السؤال من حمولاته المفاهيمية. لكن السؤال الردئ، كما رأينا، ينطلق أيضاً من خلفيات ويهتم بالصياغة الفنية، فهل نفهم أن السؤال الرديء هو ذلك الذي تتوفر لدى سائله النية الحسنة والقصد النبيل؟ وهل تزول عنه صفة الرداءة أو تعتريه الجودة حسب الهدف المضمر لصاحبه؟ على أي أساس منطقي يمكننا أن نربط بين الرغبة في تثقيف السؤال بتحسين خلفيته وصياغته، وبين قصديته المتسلطة التي تستحضر إجابة رقمية لها صفة ثابتة؟ ما الذي يجعل السؤال الثقافي مجرد جدولة تتحكم فيها مقاييس الصواب والخطاً، وهل تداخل في ذهن الأستاذة سهام السؤال الثقافي الفكري مع السؤال المدرسي الموجه بشكل تربوي بحت؟ والأهم من كل هذا، هل يخلو السؤال الردئ تماماً من القصدية؟
ولا يسع القارئ إلا أن يتسآءل عن عنوان مقال الاستاذة سهام (هل لدينا فلسفة للسؤال الثقافي؟!)، وهو سؤال يبقى دون إجابة كما أسلفت، فهل نصنفه على أنه سؤال جيد أم ردئ؟ ثم إن كان القصد هو معيار الفصل بين رداءة السؤال وجودته، فما هو (الغرض) من هذا النمط القحطاني في عنونة المقالات؟ إن مقالات الأستاذة سهام لها عناوين تساؤلية، من مثل: هل عندنا مليشيات ثقافية؟ وهل المثقف السعودي دكتاتوري؟، لكنها في كثير من الأحيان تتبع السؤال بعنوان ثانوي أو مدخل يحدد مسار النقاش على شاكلة: هل استغلت الرواية أنوثة المرأة السعودية؟ (تحتاج المرأة إلى تأسيس قيمة معقلنة لجسدها)، هل سيصبح باراك أوباما الرئيس؟
(أمريكا بنية أعدت للبيض…هذا بلد للبيض وحدهم) – مالكوم إكس)، هل الملتقيات النقدية قادرة على الإصلاح الثقافي؟ (شدة الضجيج لا تزرع أذناً ثالثة)!، الاختلاف الطائفي، هل هو إثراء ثقافي أم فتنة اجتماعية؟ (- لا أحد يتعلم من التاريخ -!)، هل السبيّل على حق؟ (غلطة الشاطر بألف يا دكتور).!، و هل تستطيع المثقفة كتابة سيرتها الخاصة؟ (لا نكتب عن أنفسنا إلا إذا آمنا بها). كل هذه بالطبع أسئلة ثقافية، لكن توابعها في كل مقال تعمل ليس فقط على استحضار الجواب، بل تتعدى المُضْمر إلى المصرّح به وتضع نتيجة النقاش في المقدمة كحائط تحجيزي.
فهل تدافع الأستاذة سهام القحطاني عن السؤال الردئ ونفعيته، في حين أنها لا تثق إلا في السؤال الجيد وجدواه؟
وأبين ختاماً أن أسئلتي هذه، وغيرها كثير، هي في جوهرها أسئلة جيدة، أو ربما هي رديئة، فهدفي في طرحها نبيل والغرض منها ليس مهاجمة الأخت سهام القحطاني، أو الانحياز إلى طرف الدكت ور عبد الله الغذامي، لكن فكرة المقال أعجبتني حقاً فأردت وبنية حسنة أن أشارك في جدل قائم حول ملمح فكري محدد، وأن أنخرط مع كاتبة قديرة في جدل موضوعي أتمنى أن يستمر حتى نشبعه بحثاً وتأملاً.
* * *
