(رحلتي إلى النـِّـيد) لعمر عبد الله العامري

تقديم مسعود عمشوش
عند إعدادي لكتاب (صحاري حضرموت) بحثت عن أكبر قدر من المراجع التي تتضمن معلومات عن نجود حضرموت. ولم أعثر حينها إلا على بعض الإشارات في كتابات بعض الضباط البريطانيين والرحالة عبد الله فيلبي وثسينجر، وكذلك ما كتبه المؤرخ علوي بن طاهر الحداد في كتابه (الشامل في تاريخ حضرموت ومخاليفها)، وما ضمنه المؤرخ عبد الرحمن بن عبيد الله السقاف كتابه (إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت). وبعد أن نشرت الكتاب أهداني الزميل عمر عبد الله سالم بن قلط العامري، الذي سبق أن قدمت له كتابا بعنوان (ذكرياتي مع أمي)، كتابه الثاني (رحلتي إلى النيد، قُف العوامر، جباء)، الذي أكرس له هذه السطور لتقديمه. وفي الحقيقة، يدخل هذا الكتاب في إطار أدب الرحلات، إذ أن مؤلفه يسرد فيه الرحلة التي قام بها إلى منطقة النيد بقف العوامر في هضبة حضرموت الشمالية المحاذية لصحراء الربع الخالي، في مايو سنة 2020، وذلك برفقة عائلته وقريبه محمد بن عوض بن قلط العامري، الذي استهل عمر كتابه بشكره. كما عبّر المؤلف عن شكره للشيخ سعيد البرك بن عسالة العامري وإخوانه الذين استقبلوهم بحفاوة في قصرهم العامر في منطقة جباء.
ويؤكد العامري في المقدمة أن هدفه من تأليف الكتاب يكمن في رغبته في “تقديم مسقط رأس أجداده: قف العوامر، وبالذات منطقة جباء، التي يسكنها فخذ من آل العوامر، هم آل عبد الباقي”. فهو يرى أن تلك المنطقة، على الرغم من أهميتها، “وما تكتنزه من خيرات طائلة في مجال النفط والمعادن النفيسة، وكذلك السياحة البرية التي أَصْبَحَ لها عشاقها، خاصة بعد أن تمهدت الطرق وظهرت السيارات الحديثة، والاتصالات المتطورة، لم يُؤلف عنها للأسف الشديد كِتَابٌ خَاصٌ. وتوجد نتف بسيطة هنا وهناك، ضمنها المؤرخ علوي بن طاهر الحداد في كتابه: الشامل في تاريخ حضرموت ومخاليفها، حيث عرج فيه على ذكر بعض الأودية للهضبة الشمالية وسكانها. وكتب عنها كذلك بعض الرحالة الأجانب، مثل سيرجنت وفيلبي، وهم لم يعطوها حقها من الكتابة، وأنا لا ألومهم فهم في الأول والأخير رحالة كتبوا ما قابلهم في رحلاتهم”.
وقد ضمّن العامري كتابه عددا كبيرا من المعلومات المرتبطة بقف العوامر وتحديدا منطقة جباء. وبدأ بتحديد معنى كلمة القف، مؤكدا أن “القف لغةً هو كُلُّ ما ارتفع من الأرض وصلبت حجارته. وفعلاً حين تصعد من عقبة قتبة الواقعة بمنطقة عيديد بتريم، ينطبق هذا التعريف على قف العوامر، وباقي النجود الأخرى، وهي نجد الكثيري ونجد الصيعري أو كما يسميه بعضهم ريدة الصيعر”. ثمّ يحاول المؤلف تبرير إطلاق كثير من الحضارم كلمة (النِّيد) على النجد (مفرد نجود). ويرى “أن كلا النطقين صحيح، والسبب أن هناك لهجتين للعرب: لهجة تميم ولهجة قريش، وحضرموت الوادي والساحل واقعة بين هاتين اللهجتين، فتميم تعيش إلى اليوم في أسفل وادي حضرموت، أي: من منطقة الغرف حتى قبر نبي الله هود، وتميم ترقق الألفاظ فيقولون الريال أي: الرجال بلغة قريش، ويقولون ياء أي بمعنى قَدم وقريش تقول جاء، ويقولون الدياي وقريش تقول الدجاج وهكذا. وأرى أن كلا الكلمتين أي النيد أو النجد صحيحة. وهناك أبحاث عديدة أنجزت لتثبت هذه الحقيقة”. ص10
وقبل أن يشرع مؤلف الرحلة في تقديم القف تناول أولا تفاصيل الطريق السالكة من عقبة قتبة المطلة على تريم إلى منطقة جباءن في الماضي والوقت الحاضر، مروراً بالحصون القديمة. وذكر أنّ الطريق تبدأ برأس الجعيبوره ، ثم خليف دمون ثم موقع يقال له كلوب. وبعد ذلك يأتيك أول كريف يسمى كريف النجر، ويمسى اليوم كريف آل جعدان، وقد بني إلى جانبه مسجد وغرف للمارة شُيّدَت حديثا جزى الله من عملها خير الجزاء. بعد ذلك يبدأ رأس الجوين وبه سيح مفتوح يسمى سيح آل جعبان، ثم تدخل إلى الجوين وهي أرض آل عبد الباقي. وأول حصن يقابلك هو حصن آل جعبان، ويقع في تلة مرتفعة تسمى قارة أم اللبن وإلى جانبها نخيل. والحصن الثاني هو حصن آل النمر ويقع بين الجوين والخنخان وهم من آل عبد الباقي. والحصن الثالث في الجوين: حصن آل عموري، وإلى جانبه نخيل وعلوب وهو في منطقة الجوين. وهنا ينتهي الجوين وتدخل وادي يسمى مرافز، وأول حصن يقابلك فيه هو الحصن الرابع ويسمى حصن آل قلط، ويقع في وادي يسمى حمى قلط وبه كريف للماء أنشئ حديثا أسفل ذلك الحصن.
وموقع حصن آل قلط، الذي يشرف على الوادي، استراتيجي، وهو حصن دفاعي وبه مشارف للرماية. وقد صعدت إلى أعلاه. وآل قلط هؤلاء هم فخيذتي التي أنتمي إليها وقد قال الشاعر عن ذلك الحصن: ( يا حصن بن قلط فوق الحمى بادي .. تضرب الركب لي قبل بين مضماه والوادي”. ومضماه: وادي يقع مقابل الحمى قلط.
ثم يأتي الحصن الخامس في مرافز، وهو حصن شاغي النقيطي، ويسمى حصن آل عساله وبه أرض زراعية وعلوب [أشجار السدر]. والحصن السادس حصن أم الأصبع ويسمى حصن آل هيثم، وهو من أعمال الجوين، وإلى جانبه بنيت غرف وحمامات حديثة وحوله سور. والحصن السابع حصن آل خويم، ويقع في منطقة يقال لها الفرعه ويقع في وادي جبا وبه أرض زراعية تسمى الفرعه. والحصن الثامن حصن آل عموري، وهو في الفرعه من وادي جبا وبه أرض زراعية. والحصن التاسع حصن قصاف، وهم من آل عبد الباقي وتحته أرض زراعية وهي ذبر فقط. والحصن العاشر حصن آل ضروس، وتحته ذبر زراعي وعلوب. والحصن الحادي عشر حصن آل عساله، ويطل على أم الملح المطل على جباء وبه نخيل وعلوب، وقد بنى به ابن عمنا الشيخ سعيد البرك بن عساله العامري قصرًا حديثاً عامرًا بالماء والكهرباء والاتصالات، وهذا القصر مقصد للضيوف وهذا القصر بتنا فيه مع أفراد عائلتي، وبعض إخواني وكثير من الضيوف في إجازة عيد الفطر جعل الله ذلك في ميزان حسناتهم.
والحصن الثاني عشر حصن آل جعبان، ويشرف أيضا على وادي جباء. والحصن الثالث عشر حصن آل سعيد بن على بن نبيل، ويشرف على أم الملح ووادي جباء. والحصن الرابع عشر حصن آل عموري ويقع في منطقة يقال لها المخينوقة وهو خارج جِباء ويقع في ضمر حلوف وبه أرض زراعية. والحصن الخامس عشر حصن آل قلط، وهو الحصن الثاني لهم ويقع في حلوف، ويقع في وادي يقال له الضواد، وبه كريف ماء وبه أرض زراعية وعلوب، ويسكنه كثير من أصحاب النحل؛ لكثرة أشجاره، ووجود كريف الماء ويسمى كريف الضواد. والحصن السادس عشر حصن آل جعبان، ويقع في منطقة يقال لها النخلة، وبه زراعة ونخيل، وتسمى أرض آل جعبان ويقع في وادي جباء. ثم نصل إلى وادي يقال له وادي جزلاه، ويقع فيها الحصن السابع عشر، ويسمى حصن آل سالم، وهم من آل عبد الباقي. والحصن الثامن عشر حصن آل دومان، ويقع خارج جبا في وادي يسمى كهيف، وهو تصغير كهف. وبعد ذلك وصلنا إلى واد يقال له برص، وهذا الوادي به أرض زراعية ونخيل وعلوب ومقبرة كبيرة مسورة، بها مكان معد لتغسيل الموتى. فجزى الله من سورها ورتب أماكن التغسيل للموتى خير الجزاء.
وطبعا الطرق بين هذه الحصون والوديان ليست معبدة ولا ممهدة، وهي سالكة للجمال والسيارات، وتجد متعة وأنت تتنقل بين جنباتها، حيث الأشجار والشجيرات.
(2/3) الإدارة والتضاريس والسكان والهجرة:
يذكر مؤلف (رحلتي إلى النيد) أن النجود كانت قبل 1967، “تخضع بصورة عامة للعرف القبلي، والدولة الكثيرية نفوذها يكاد يكون معدوماً. وبالنسبة لقف العامري فقد كان يخضع لشيخ طائلة العوامر. وهو في ذلك الوقت أي في الأربعينيات والخمسينيات عائض بن مبخوت بن طبازة. وهذا قبل الثورة أي ثورة ١٤ أكتوبر بحوالي ٢٥ سنة”.
ويذكر العامري أن قف العوامر أصبح اليوم يشكل جزءا من (مديرية القف)، وهي إحدى مديريات وادي وصحراء حضرموت. ويكتب ” وتنقسم مديرية القف إلى (۱) إذنه (۲) الشتم (۳) الحوجاء (٤) الرحاب (٥) جِبَاء (٦) المباركة (۷) تميس (۸) حُزُر (۹) رِتْيبي (۱۰) شَهْمَاه (۱۱) صَيْق (۱۲) طرون (۱۳) ظیلم (١٤) فرع (١٥) القويع (١٦) كهيف (۱۷) مخيه (۱۸) هواه. وهذه الأسماء تقع جميعها في الهضبة الشمالية من وادي حضرموت”. ص8
ويستطرد المؤلف في الحديث عن تضاريس هذه هضبة حضرموت الشمالية، التي تضم قف العامري وقف الكثيري وقف أو ريدة الصيعر، ويركز على منطقة جباء. ويذكر أن “أعلى ارتفاع في الهضبة الشمالية يصل إلى حوالي ثلاثة ألف قدم فوق البحر، وأمطارها تنحدر جنوباً نحو وادي حضرموت لا تنحدر نحو الرمال. وإنك حين تكون قريبا من عقبة قتبة تشاهد بعض الأخاديد الجبلية مكونة الأودية الجرداء القاحلة والخضراء في بعض الأماكن مثل وادي ثبي ووادي عيديد أودية خضراء هي مستقر للإنسان لقرب المياه الجوفية من سطح الأرض”.
ويشير إلى أن سطح الهضبة الشمالية مغطى اليوم “بمجموعة من السيوح ومفردها سيح، والأودية مثل الجوين والخنخان ومرافز ووادي النخلة، والتي تصب أوديتها في جباء. وهناك مجموعة من الجبال الصغيرة وتسمى قويرة، وهي تصغير قارة متناثرة هنا وهناك، وتنحدر عنها أودية سحيقة ذات سلاسل جبلية وعرة، وأخاديد تستطيع رؤيتها من أعلى كقطعة لحم كبيرة قام ضرغام بغرز أظافره وقطعها إربا إرباً. وهذا الموقع ذو الصخر الجيري كان قبل ملايين السنين تغطيه المياه العميقة، هل كانت مياه أنهار أم بحار؟ الله أعلم. المهم أنها كانت مغمورة بمياه، وإلا بماذا تفسر وجود قواقع متحجرة على سطح تلك الجبال؟ وهناك الأحجار الكبيرة والصغيرة التي بها ثقوب وزوائد مثل الشعب المرجانية المتحجرة، ثم بماذا تفسر وجود النفط بكميات هائلة، أليس هذا تحلل للنباتات والكائنات الحية التي كانت تعيش في تلك المنطقة؟ هكذا يفسر أهل علم الجيولوجيا من خلال دراساتهم لطبقات الأرض، ومن خلال تحليلهم لطبقات الأرض ومن خلال تحليلهم لتركيب النفط الموجود في تلك المناطق”.
**
وفيما يتعلق بسكان القف، يؤكد العامري أن “النيد أو قل النجود الثلاثة ليست محل استيطان دائم، وإنما حين يتوفر الماء والكلأ للإنسان وماشيته يكون الاستيطان”. ويبرر بذلك تنقل سكان تلك النجود بين القف ووادي حضرموت، كل سكان نجد بالقرى والمدن المقابلة له في الوادي، فهو يكتب: “حين تشاهد من الجو الاستقرار البشري وتربطه بالهضبة الشمالية فإنك تجد الآتي:
(۱) قف العوامر في الهضبة الشمالية تقابله في الوادي منطقة تاربة ووادي الذهب، ولن تجد عوامر يسكنون في غيرها باستثناء فخيذ آل عانوز، وهم من آل عبد الباقي العوامر ويسكنون بين تريس والغرفة، ولهم حصونهم ومزارعهم ومثواهم في تلك المنطقة، كذلك آل عسانه ويسكنون في ساحل حضرموت، هذا بالنسبة للعوامر وقفّهم. وكذلك من جهة الصحراء تجد آل عزيز بن عامر ويسكنون ثمود وخضره وقناب.
(۲) قف الكثيري في الهضبة الشمالية تقابله في الوادي المنطقة من بور وسيئون والعروض إلى ما جاوز القطن وحريضة ومواقع بسيطة أخرى.
(٣) قف الصيعر (أو ريدة الصيعر): يقابله في الوادي ما بعد حريضة إلى الرملة.
أي أنه في فترات الجفاف والجدب في الهضبة الشمالية يرتحل السكان بمواشيهم إلى وادي حضرموت الخصيب، وهو الوادي الأخضر على مدار العام وحيث المياه السطحية القريبة من السطح. وهذا التقسيم بين الهضبة الشمالية ووادي حضرموت لم يأتِ من فراغ، بل فرضته ظروف الحياة القاسية طلبا للرعي والكلأ والماء”.
**
ويكرس عمر العامري فصلا من كتابه لموضوع (هجرة أهل النجود إلى السعودية والخليج). يستهله قائلا: “تعد الهجرة وترك الأوطان آخر ما يفكر فيه الإنسان، لكن هناك أسباب تؤدي إلى تلك الهجرة، منها: الجفاف، وقلة دخل الفرد، فدخله من أرضه لا يكفيه؛ فيلجأ إلى التفكير في الهجرة التي قد تكون بسبب الحروب والفتن والتغيرات المناخية أو السياسية.. وكل هذه العوامل مر بها الإنسان في حضرموت، لذا لا تستغرب أن تجد جاليات كبيرة من الحضارم ومن أهل النجود في الهند، وأفريقيا، وشرق آسيا، وأخيرًا في دول الخليج العربي والسعودية، حيث كونوا هناك جاليات عظيمة بأعداد كبيرة في بلد الاغتراب، وإن قبائل بكاملها قد انقرضت في موطنها الأصلي ووجد لها فروع هناك في بلد المهجر. ومنهم من حمل جنسية تلك البلدان، خاصة في الخليج والسعودية، لقرب تلك المهاجر من حضرموت ولتقارب عاداتهم وتقاليده ولوجود فروع وأصول لتلك القبائل في بلد الاغتراب.
وقد أثر هذا الاغتراب في المغترب خاصة، إذا ما عرفنا أن أول حضرموت ذوي خبرة وباع كبير في التجارة. وقد كان لهذا الاغتراب الأثر الجيد على حياتهم وعلى بلداني فانقلبت حياة البدوي منهم إلى تحضر، وتغير في كل شيء، ملابسهم وطباعهم، وأخلاقهم، ونمط معيشتهم، ولهجتهم، وهذه نعمة من الله من بها على بادية حضرموت وحضرها فتحسن دخل الفرد وقاموا بتنفيذ العديد من المشاريع مثل: بناء المساجد ، والمدارس ، والمستشفيات والمساكن الجميلة الفارهة ، خاصة وأن معظم المهاجرين سواء من البدو او الحضر قد اشتغلوا بالتجارة ، وأقاموا شركات ضخمة وعلاقات واسم سواء مع السلطات ، أو مع عامة شعوب بلدان الاغتراب… وعلى الرغم من بعض إيجابيات تلك الهجرة غير أن لها العديد من السلبيات منها أنه من يهاجر عادة هم من الشباب ومن أصحاب الخبرة والكفاءة؛ لذلك خلت بعض البيوت من شبابها ومن أهلها خاصة في النجود الثلاثة فأهملت الزراعة وأهملت الثروة الحيوانية ، بل وخلت تقريبا بعض النجود من أهلها ، لكن لله في ذلك ما أراد”.
(3/3) عادات الزواج والملابس وحل النزاعات والأسلحة في جباء
يؤكد عمر العامري، مؤلف (رحلتي إلى النيد)، أن “العادات والتقاليد يتوارثها الأبناء من الأجداد، وتنتقل من جيل لآخر، فهي سجل الشعوب. والشعوب تحافظ دائما على موروثها، وتحاول توثيقه وتسجيله لأنه يمثل السِّجل التاريخي لتلك الجماعة أو القبيلة أو المجتمع عموماً”. لهذا ليس مستغربا أن تتحول الرحلة التي قام بها عمر في مايو 2020، عند تحول كورونا إلى وباء عالمي، إلى ما يشبه البحث الميداني الهادف إلى جمع أكبر عدد ممكن من عادات أهل قف العوامر وتقاليدهم وأعرافهم. فهو كرّس خمسة فصول من كتابه (العادات والتقاليد والأعراف، حل المشكلات في جباء، طرق حفظ الأطعمة، عسل النحل، ومصطلحات عند أهل النجود) لتقديم عدد كبير من العادات الاجتماعية عند العوامر. ويؤكد أنه قد استقى معلوماته من أفواه بعض المسنين المستقرين في القف. وذكر أن “العم عمر البريك وأمثاله يملكون ذخيرة تاريخية ويجب الجلوس معهم، وتسجيل ما يمكن تسجيله حفاظا على الموروث التاريخي الذي إن أهمل ستنساه الأجيال”.
وقد بدأ العامري بالحديث عن عادات الزواج في جباء، وتحديدا بعادة (التُّغُوَّى) التي كانت تعدُّ خطوة تمهيدية للزواج عند البدو، وقدمها على النحو الآتي: “هي عادة يمارسها العرب منذ القدم، إذْ يتعرف الشاب على الشابة وتجلس معه ويتحدثان في عشق عذري، ولا يلمسها لأنه إذا لمسها بيده “عتبها”، وعندئذ عليه أن يدفع مبالغ طائلة، أو بندقية، أو أغنام، ولا تقبل به المرأة أن يكون زوجاً لها، ويعدونه مخلا بالمروءة والشرف. والمرأة في هذا السن تكون عادة ترعى الغنم، ولا تجلس في الخيمة، بل تكون دائما مع أغنامها باحثة على الكلأ والمرعى؛ من هنا تجد المرأة الفرصة للخروج والتحدث مع من تقابل. والمرأة معها كل الحرية في اختيار شريك الحياة، والتعرف عليه وعلى سلوكه وخلقه، وقد يستمر التغوى أشهر عديدة، وقد ينتهي بالزواج، وقد لا يتفقان فيحصل التباعد بينهما. والتغوى وحديث الرجل مع المرأة، أو قل عنه العشق العذري عرفته العرب، بل وتفتخر به. وما مقدمات المعلقات السبع التي علقتها العرب على جدران الكعبة وكتابتها بماء من ذهب، وحديث المحب لمحبوبته وغزله الشريف مثل كثير وعزة، وجميل وبثينة وعنترة بن شداد وعبلة،… إلا خير دليل وشاهد على هذا السلوك العفيف والذي ظلت العرب في باديتها تمارسه إلى اليوم، وهو مناف للشرع. ونعود لواقعنا: إما في حالة الانسجام بين الاثنين فيقدم الشاب لخطبة الشابة ويتم الاتفاق على المهر وموعد الزواج.
وعادة يتم اختيار موعد الزواج في موسم الخصب حيث الكرفان ممتلئة بالماء والكلأ متوفر للماشية والجمال فيحصل العرس. وعادة يكون ثلاثة أيام مثل عادة أهل وادي حضرموت، حيث تتم عملية الحناء للعروسة في اليوم الأول من العرس. وفي الليلة الثانية تزف العروسة إلى موقع مهيأ لهما إما خيمة صغيرة أو غار وتزف العروسة من قبل النساء بالأهازيج والزغاريد وهكذا أو إطلاق الأعيرة النارية كناية عن الفرحة… وقديما لا يدخل العريس على زوجته في الأيام الأولى من العرس، بل ينتظران حتى ينفض الأقارب عن موقع العرس، ويصبح أهل العريس وأهل العروسة لوحدهم، فيهيأ مكان للعرسان ويتم ترتيبه سواء كان غاراً، أو جانب من صخرة كبيرة ونحو ذلك فيدخل العريس على عروسته، وقد أخبرني بذلك أكثر من واحد بهذه الطريقة. بساطة ما بعدها بساطة”.
وبعد ذلك يتناول المؤلف عادة الرقص أو الشرح عند سكان القف، وقدمها قائلا: “قديما أي في الستينيات، كان الرقص مختلطاً، أي أن الرجال والنساء يرقصون في حلبة واحدة، تسمى: المدارة. وأشهر رقصاتهم هي المريكوز والهبيش والشرح. ولا تستخدم فيه الطبول، بل الرقص بالأيدي، ويتفاعل معه الجميع الكبار والصغار والرجال والنساء، بل حتى العروسة كانت تشارك فيه، وترقص مع الجميع وتُعطى لها المعونة “الطرح” حيث تستلمه في الحلبة أحد قريباتها. ويستمر الشرح حتى ساعات متأخرة من الليل، لكن تظل الحشمة الاحترام هما سادة الموقف. والمرأة تكون محجبة وعليها النقاب. هذا طبعا كما قلت في الستينيات وما قبلها. وذكرت هذا الأمانة النقل التاريخي. أما اليوم والحمد لله، وبعد أن انتشر الوعي الديني في الحواضر والبوادي، تم التفريق بين الرجال والنساء، سواء كان العرس في جباء أو في هضبتي وادي حضرموت؛ وأصبحت للنساء رقصاتهن الخاصة في معزل عن الرجال، وللرجال رقصاتهم الخاصة في معزل عن النساء. غير أنه في بعض الأماكن قد تستأجر بعض الراقصات عند بعض الأفراد ويرقص معها الرجال. وهذا ظل باقيا إلى اليوم هداهم الله؛ لأنه مخالف للسنة ونحن مأمورين بالحشمة والعفة”.
ويذكر المؤلف الهدايا التي “يطلبها أهل العروسة بعد المهر، وبالذات لأخوال العروسة وخاصة الرجال منهم فتعطى ما يسمى “الملاحف” ومفردها ملحفة وهي قماش يلتحف به الرجل مثل الإزار لونه أسود. هذا بالنسبة لأخوال العروسة، قلّ عددهم أو كثر، وهذا ليس في جباء وحدها بل في النجود الثلاثة. وفي المقابل على الخال أن يقدم هدية للعروسة وهي إما خاتم من الذهب أو ملابس أو ذبيحة، هكذا كان العرف العام عند أهل بادية حضرموت سواء في الهضبة الشمالية أو الجنوبية”.
وبالنسبة للملابس، يذكر العامري أن “الرجل في جبا كان يرتدي قديما (السواد)، وهي الملاحف، يعمل أحدها إزارا يتزر به ويجعل الأخرى على كتفه، ويلف حول رأسه العمه. وقد يلبس مقدمهم العقال الأسود أو الذهبي كي يتميز عن بقية أفراد القبيلة”.
أما المرأة فترتدي عادة ملابس فضفاضة كي تسترها، وهي محتشمة، فالأكمام واسعة. والثوب يسمونه القميص ويكون عادة غليظ أي ليس بالشفاف وذلك للحشمة، ويكون لونه عادة أسود ويسمونه المعلوم، ويُفصّل على شكل ذيل من الخلف وقدمه من الأمام، أي أنه قصير إلى دون نصف الساق في الأمام وذيل في الخلف. ويقال إن الذيل هذا فرض على نساء حضرموت وكذلك اللون الأسود للرجال والنساء حين حصلت الحروب بين عبد الرحمن ابن عطية والأباضية… وقد ظل القميص إلى عصرنا الحاضر وفيه الذيل، وأصبح رمزا ترتديه المرأة البدوية والحضرية في مدن وبوادي ونجود حضرموت”.
ثم يقدم المؤلف عادة السلاح في القف، ويؤكد أن “الأسلحة تُعد في نظر البادية من الزينة ومكملة للرجولة والشخصية؛ فكانوا قديما يحملون على أكتافهم بندقية، أو فتيلة مثل غيرهم من قبائل حضرموت… والنوع الثاني من الأسلحة الشائعة الاستخدام في النجود وكل بوادي وحواضر حضرموت هو السلاح الأبيض وهي: الجنابي الحضرمية، التي تعد من أشهر الجنابي. وقد تفنن فيها الصناع الحضارم، وجعلوا ممسكها قرن الزرافة، وطعموها بالذهب والفضة وعملوا لها الجفير والحزام الجلدي المميز، والمطعم بألوان زاهية من الحديد. ولعل أشهر أنواع الجنابي الحضرمية النوع المسمى القبلي ورأسها من قرن الزرافة. والنوع الثاني المسمى القصيبي، ويأتي من الهند مع تطعيمه في حضرموت. والنوع الثالث المسمى القديمي. ومن السلاح الأبيض أيضا توجد الغدارة والنمشة وكذلك السكاكين وكل هذه الأسلحة كان يتمنطق بها سكان الجزيرة العربية.. أما السيوف فكان سكان النجود قليلا ما يستخدمونها، باستثناء سلاطينهم من آل كثير”.
ومن عادات سكان قبائل وكل سكان النجود البوادي والحضر التي يقدمها المؤلف في كتابه: الكرم، وهي عادة وصفة حميدة وميزة يمتاز بها العرب جميعا، فتجد أهل النجود يستقبلون الضيف بحفاوة بالغة سواء الاستضافة والترحاب، فيقدم له اللبن والقهوة والتمر وقد يذبح له الذبيحة”.
ويشير العامري إلى أن القنص يعد الهواية المفضلة لدى الكثير من سكان النجود، في والحاضر. وقنيص الوعل الذين يسمونه تيس الجبل هو الأمنية الأولى للرجل في القف. ويذكر أن من الحيوانات التي يقتنصونها الظباء التي تتردد على مصادر المياه والكرفان والنباتات البرية في النجود.
ويقدم العامري في كتابه (رحلتي إلى النيد) بعض طرق حل النزاعات بين سكان النيد، ويذكر أنهم يعتمدون في حل مشاكلهم على نظام عربي قديم وهو: القعيدة. ووفق هذه العادة “يقعد المتخاصمون بوجود أفراد من الأقارب وكبار السن، فيطرح الطرف الأول مشكلته، ويحاول أن يثبت حقه بكل ما أوتي من حنكة وخبرة أمام القعيدة. وبعد ذلك يتحدث الطرف الثاني باذلا جهده ومراوغته للدفاع عن نفسه وعن قضيته. وهذا يعني أنها محكمة منعقدة، والقاضي فيها هو الأكبر سنا، أو الشيخ أو من يرونه من الحضور مناسبا للحكم. وفي حالة الفشل أو إصرار أحد الأطراف على رأيه يطلب أحد الحاضرين من الطرفين اللجوء إلى شخص ثالث محايد، سواء إن كان من القبيلة أو من خارجها.
وهناك عادة (العدالة) وهي عربون يطلبه الشخص الحكم، وهي إما أن تكون بندقية أو جنابي أو سيارة، وتعتمد العدالة على حجم المشكلة وكبرها أو خطورتها، وتسمى بالعدالة المثقلة خاصة في حالات الدماء أو القتل أو السطو أو القدح في الشرف أو غيره من المشكلات. ويرى العامري أن هذا النوع من الحلول لا يزال معمولا به إلى اليوم خاصة في ظل ضعف المحاكم، ووسائل التقاضي الرسمية ويسمى هذا الأسلوب بالأحكام القبلية. وبعض هذه الأحكام تكون جائزة، وبعضها لا يتفق مع مثل أن يطلب المحكم مجموعة حلاقة على الرغم قوانين الأحوال المدنية، أنهم لم يشهدوا حيثيات القضية ولكنهم يحلفون على قول صاحبهم، هكذا جرى العرف عندهم.
ويذكر المؤلف كذلك عادة (النقد) في حل المشاكل، ويقول عنها “وهي مرحلة متأخرة من الحلول ويلجئون لها في حالة أن أحد المتخاصمين لم يقتنع بالحكم أو أنه وجد فيه غبنا أو ظلما عليه فيلجأ إلى النقد الذي يشبه الاستئناف، ويتم النقد عادة عند شخص صاحب خبرة في مثل هذه الأمور، ويكون عادة في كل قبيلة أفراد متخصصون في النقد، لهم وجاهتهم واحترامهم. وفي وادي حضرموت تلجأ القبائل إلى مقدم العوامر، أو الحكم بن ثابت النهدي، أو غيره من شيوخ القبائل المتعارف عليهم. هكذا تحل المشكلات في جبا وفي معظم النجود وغيرها من المناطق القبلية.
وقد يلجأ الجميع إلى الدولة حيث القوانين والدساتير والقضاء عبر المحاكم، وأهل جبا يتجهون لأقرب محكمة وهي إما في تريم أو سيئون. لكن الصلح هو سيد الأحكام”.
مع ذلك يؤكد المؤلف أن معظم أهل البادية يفضلون الأحكام القبلية على أحكام القضاة والمحاكم وذلك أن هذا النوع من التقاضي لا تدخله الواسطة ولا الرشوة ولا المحسوبية، ويكون سريعاً ولا يأخذ أكثر من نصف شهر. ومعظم الأحكام تكون متعارف عليها بل وتكاد أن تكون مكررة، ويسمونها السوارح، أي أنها قد سرحت بها العادة والأعراف والتقاليد.
Comments are Closed