بيت الصدأ حزاية للكبار
مسعود عمشوش
في كتابي (الحزايا الحضرمية) أكدت على الطبيعة الخيالية لجنس الحزاية، وذكرت أنها حكاية شعبية ترويها الأمهات والجدات لأبنائهن وبناتهن، وتتضمن كثيرا من العناصر الخارقة. وتقول الروائية الكينية حضرمية الأصل خديجة عبد الله باجابر إن ما دفعها لكتابة روايتها (بيت الصدأ The House of Rust) هو رغبتها في تسلية أمها ومساعدتها على إمضاء الوقت خلال ساعات انقطاعات الكهرباء في مدينتها مومباسا، إذ تقول: “عندنا في مُومباسه انقطاعات التيار الكهربائي طويلة وكثيرة. أذكر مرةً أنها انقطعتْ يومين. كان الوقت ليلاً، ولم يكن يأتينا الجو بهبة نسيم واحدة. وكنت جالسة مع أمي وأختي في غرفة المعيشة، عندما بادرتْني أمي تقول :”اروي لي قصة!”. وفعلت وقلت لنفسي سأعمل على كتابة قصة تتخذ من مومباسا مسرحاً لها وتبطنها مسحةٌ من الخيال، وهكذا بدأتُ هذه الرواية وأنا لا أعلم كيف كانت ستنتهي. غير أنني في تلك الليلة وضعتُ نهايتها. هكذا كتبت (House of Rust بيت الصدأ)!
وفي سنة ٢٠١٨ قدمت خديجة عبد الله باجابر، مخطوطة روايتها الأولى لمسابقة دار غرايوولف للنشر الأمريكية، وفازت بالجائزة التي تمنحها للأدب الروائي الإفريقي. وبعد أربع سنوات فازت الرواية بجائزة أورسولا ك. لو غوِن للأدب الروائي لسنة 2022.
يكرس الجزء الأكبر من أحداث الرواية لسرد مرحلة التي تكبر خلالها البطلة من سن الطفولة إلى سن الرشد، وتواجه خلالها وحوشا وعفاريت وغربانا ناطقة. وتشبه بطلة هذه الرواية الأولى المؤلفة في كثير من ملامحها؛ فهي فتاة حضرمية من مدينة مومباسا في كينيا، تدعى عائشة، يختفي والدها الصياد الذي كان يصطاد معظم الصيادين المحليين أسماك القرش قبالة الساحل، لكن كان أكثر جرأة وطموحا من الآخرين إذ كان يخرج بمفرده إلى أعماق المحيط وفي يوم من الأيام خرج ولم يعد. وتخبر حبابة عائشة (أو جدتها) أنه إذا لم يعد في غضون خمسة أيام ، فستبدأ في الدعاء له وستقرأ الفاتحة على روحه. وفي ليلة اليوم الثالث تنزل عائشة إلى الشاطئ برفقة قط زقاق خارق يتقن الكلام (حمزة)، اعتادت إطعامه والحديث معه. ويسحبان معا قاربا هو في الواقع أضلاع مخلوق بحري قديم. وتنطلق عائشة إلى البحر على متن هذا القارب السحري وتلتقي بثلاثة وحوش بحرية مرعبة وحيونات وغربان تتقن هي أيضا الكلام. ويحذرها حمزة: “هناك أشياء في البحر يمكن أن تأكلك وأنت على قيد الحياة”.
وتأخذ عائشة المجاديف ويتقدم القارب إلى الأمام بهدوء وثلاث مرات يتوقفون، وثلاث مرات يقدمون قربانا للبحر. وثلاث مرات يلتقون بمخلوقات من الأعماق: ثعبان بحري ضخم، وبابا وابابا ، والد جميع أسماك القرش. وفي النهاية تسحب عائشة والدها الغريق من البحر ومع انتهاء الليل يتم إلقاؤهم مرة أخرى على الشاطئ في مومباسا. ولكي تعيد عائشة والدها للحياة عليها أن تزيل من قلبه الروح الذي يدعوه إلى البحر: زعبير ، ويتطوع زعيم الصيادين ويفعل هذا من أجلها، وهكذا ، يعودون إلى ديارهم. ويجد الوالد وظيفة ويعمل نجارا. وتفاجأ عائشة حينما تتبين أن الأمور قد تغيرت في المنزل، وأن حبابتها (جدتها) تريد منها أن تتزوج وتعيش سعيدة، وتوافق على الاقتران بشاب لطيف لا تريده. فهي تفضل أن تظل مستقلة، لتترحل حول العالم.
يمكننا اعتبار رواية (بيت الصدأ) رحلة بحرية خيالية لفتاة تبحث عن جذورها وجذور اجدادها البحارة الحضارم الذي كانوا يترحلون بين ساحل الجنوب العربي وسواحل شرق إفريقيا وجنوب شرق آسيا. وتقول خديجة: “أجدادي، من أبي وأمي، جاؤوا جميعهم إلى هنا من حضرموت، وهم ينحدرون من مكان يسمى عندل. لا بد أنهم جاؤوا قبل أو أثناء الحرب العالمية الثانية. كان البريطانيون لا يزالون يحتلون كينيا خلال تلك الفترة. لقد مكثوا لفترة في مكان يسمى كيتوي. وكان اسم كل من الجدين علي. لقد فعلا كل ما في وسعهما لمساعدة أسرهم. افتتح جدي لأمي متجراً صغيراً، بينما عمل جدي لأبي في بيع قطع غيار السيارات، حسبما سمعت. وكانا كلاهما منخرط في التجارة وأشياء من هذا القبيل. لقد كانا صديقين قبل أن يصبحا نسيبين. ثم انتقل كل منهما إلى مدينة مومباسا، وعاشا فيها حتى توفيا، وأدعو لهما بالرحمة”.
وفي اعتقادنا أن السمة المميزة لهذه الرواية انتسابها لتيار الواقعية السحرية، التي وظفت كثيرا من المعتقدات الشعبية السواحلية الكينية والحضرمية، مثلما فعل مواطنها الكيني حضرمي الأصل عبد الرزاق جرنح في عدد من رواياته. وعندما سؤلت خديجة باجابر عن الموضوعات التي تحاول التركيز عليها في كتاباتها ردت: “إنني لا أركز على موضوعة بعينها، لكن تظل تسكنني أمورٌ من قبيل: قضايا الهوية، والانتماء، واستقلالية الإنسان بإزاء التزاماته تجاه العائلة أو المجتمع. كذلك افتخارك بالأرض التي انحدرتَ منها مع سعيي لنيل أشياء بطريقتي. وأنا، كما هو ظاهر، امرأةٌ مسلمة من كينيا، وأنا أفهم أن العالم معادٍ جداً لكثير من الأجزاء التي تؤلِّف هويتي. أنا لست بالمؤرخة، لقد درست الصحافة، ولو أني لا أمارسها. ما يهمني هو أن لا أسهم في محو ذلك أو في التغاضي عنه أو غفرانه.. لقد ضقتُ ذرعاً. فما من أحد كان سيكتب قصصنا. كيف عساي أن أكتب فقط عن أراضي التلال والمستنقعات الإنجليزية والأماكن الخيالية وأنتظر شخصاً آتٍ من خارج مدينتي ليسيء تمثيل قومي؟ أريد الكتابة عن تلك الأماكن، لكنني لن أنتظر شخصاً ما ليكتب عن موطني. ربما سأقع في كثير من الأخطاء، لا عن سوء نية أو جهل متعمد، ولا عن كذب، لكنني أفضِّل أن أقع أنا في خطأ على أن أغضب حين يفعلها الآخرون بنا. إنني لا أسعى إلى أن أعجب القراء او أصدمهم بما أكتب، أو أن أثير زوبعة. ما يهمني هو ألَّا أكون قاسية عن عمد أو بالصدفة على الآخرين، أو أن أزيد في نبذ واغتراب مَن هم قيد النبذ والاغتراب أصلاً”.
Comments are Closed