موقع ثقافي تعليمي

المهاجرون الحضارم في رواية (سالمين)

أ.د. مسعود عمشوش

يعتمد المؤلف في رواية (سالمين)، التي تقع في 107 صفحة موزعة على ثمانية عشر فصلا، السرد بضمير المتكلم (أنا)، وهي تقنية تستخدم في كثير من النصوص السردية الخيالية وتجعل من الراوي مشاركا في الأحداث وربما بطلا، وتقرب تلك النصوص الخيالية من فن السيرة الذاتية، وتضفي عليها شيئا من (الواقعية).

في الثلاثة عشر فصلا الأولى من الرواية يقوم بالسرد حمد ابن البدوي الدوعني صالح الذي هاجر في مطلع القرن الماضي إلى جاوة (اندونيسيا حاليا)، بعد أن جرّب الهجرة إلى سواحل إفريقيا والهند وسنغافورة. وفي الفصول الأخرى يتولى السرد سالمين، الذي كان عبدا لحمد وأبيه، قبل أن يصطحبه معه حمد إلى جدة في نهاية الأربعينيات من القرن الماضي، ويصبح تاجرا ويتحصل على الجنسية السعودية.
في الجزء الأول من الرواية، يقوم الراوي حمد بتقديم موجز لبعض جوانب الحياة البدوية في قرى وادي دوعن خلال عقدي الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين. وفي ذلك التقديم يسعى الراوي إلى التعميم جاعلا من نفسه ممثلا لجميع سكان منطقته، ويحوّل (أناه) إلى ضمير المتكلم الجمع (نحن)، فهو، مثلا، يقول: “تمضي حياتنا متنقلة وأحيانا مستقرة في مكان ما من الوادي. ففي وقت الخريف ووقت جني المراعي ننزل مع عوائلنا ونحل بين الجبال التي تصبح مأوى لنا، نساؤنا بالقرب منا في جبل يحجبهن عن أنظار الناس والزائرين، نفترش الأرض، ننظر إلى السماء، نبتهل لله ألا يحرمنا من الخير، وأن يرزقنا الأخبار السارة وأمطارا غزيرة تروي قلوبنا العطشانة للمطر ورائحة الأرض وخصوبة الأرض عندما تبللها قطرات المطر، وأن يبلل حياتنا بالسعادة بعد قسوة الحياة والتنقل بحثا عن مرعى لنا ولأغنامنا وإبلنا”. ص11

أولا- الحضارم والمهجر الشرقي (جاوة)

ومع ذلك فمعظم ما يرويه حمد في الجزء الأول من رواية (سالمين) مكرس لتقديم هجرة الحضارم إلى جاوة (إندونيسيا حاليا): مسبباتها، وأثرها في عادات الحضارم في أرض المهجر وفي حضرموت، لاسيما في الحياة العائلية والاجتماعية بشكل عام، ومشكلة المولدين والجذور ومسقط الرأس، ثم العوامل التي أجبرت الحضارم على مغادرة ذلك المهجر الشرقي والتوجه إلى المهجر السعودي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

بالنسبة لمسببات الهجرة إلى جاوة، يركز الراوي على البحث عن مصدر للقمة العيش، والثروة؛ فهو يذكر أن أمه أخبرته أن “أصعب لحظات الحياة أن يترك الرجل زوجته وأولاده ويهاجر بعيدا عنهم لطلب الرزق، فمنهم من يعيش ويرجع إلى أهله، والبعض تمتد به الحياة ويتناسى أهله ويعيش مع زوجات أخريات، والبعض يغيبه الموت ولم يحقق أحلامه”. ص42-43

وإذا كان معظم الحضارم يغادرون حضرموت طلبا للقمة العيش فهناك أسباب أخرى يمكن أن تجبر الحضرمي على الهجرة إلى جاوة؛ منها الهروب من الثأر. فالراوي حمد يقول: “أخبرتني أمي عن عمي الوحيد الذي هرب إلى جاوة، وكانت هجرته خوفا من الثأر من القبيلة المجاورة لنا التي قتل عمي ابنها، عندما اختلفوا على الأرض، قالت لي ليس هو الوحيد الذي هرب خوفا من الثأر بل جارنا سالم هو أيضا ترك أولاده يواجهون مصيرهم لوحدهم ولم يرجع بعدها للبلاد”. ص43

ويخبرنا حمد كيف أن والده، البدوي، الجمّال، الدوعني، استطاع أن يمتهن بنجاح كبير التجارة في سنغافورة ثم في جاوة. ويعبر عن دهشته بنجاح أبيه والحضارم الآخرين هناك، قائلا: “فضلت حياة الوحدة بعد وفاة والدتي. ووالدي في جاوة مشغول بتجارته مثل بقية الحضارم المهاجرين في أصقاع الأرض، يجوبون الجبال والبحار، من أرض إلى أرض، يتحدثون لغات الأقطار التي ينزلون بها، ويحققون أحلامهم التجارية، وبعضهم تتلاشى أحلامه في المهجر. أفواج من البشر تزحف خارج الوطن يسكنون قلوب الناس، وبعدها ترحب بهم الأرض الجديدة واللغة والعادات الجديدة. أقف في استغراب لهؤلاء الرجال ما إن يذهبوا إلى أرض ما حتى يبزغ نجمهم. فبرغم كل الصعوبات التي يواجهونها، يجعلهم إصرارهم ينجحون خارج وطنهم”. ص24

وعلى الرغم من أن الراوي حمد لم يسافر إلى جاوة، فهو يسرد لنا بعض مظاهر حياة المهاجرين الحضارم هناك، وذلك نقلا عن أخته الجاوية، فهو يقول: “جلساتي المتعددة مع خديجة عرفتني الكثير عن جاوة وعن الناس هناك، لاسيما عن والدي. سألتها عنه وعن أصحابه وأعماله، وكيف يقضي وقته في تلك البلاد. علمت منها أن معظم أصحابه من وادي دوعن، أما وقته فيقضيه بين أملاكه، وخاصة فندقه في العاصمة باتافيا (جاكرتا حاليا)”. ص37

أثر المهجر الشرقي في الحضارم في أرض المهجر وحضرموت نفسها:

في المهجر يبتعد الحضرمي عن بعض العادات التي يلتزمها في حضرموت، وذلك بسبب اختلاطه بحضارم من فئات اجتماعية أخرى أو بالسكان الأصليين. فحتى الأسماء يختار المهاجر أسماء من غير تلك التي يختارها بني طينته في حضرموت التي يردد سكانها: “بعض الأسامي ما تجيب إلا المرض ** علوي في الضعفاء وفي السادة عوض”. ويذكر الراوي حمد بن صالح: “جلست أفكر قليلا، وخديجة تتحدث عن جاوة والناس هناك، وعرفت أن اسمها لا يسميه من ينتمي إلى اﻷصول البدوية، لكن احتكاك والدي بالناس، وبكل الأجناس غيّر في حياته، وسمى بنته خديجة بدلا من اﻷسماء المتداولة عند البدو، مثل بركة، عائشة، غيثة، قصع، قرنفل، وفاطمة، وغيرها من اﻷسماء المتداولة”. ص 37

وكما هي العادة يعمد الراوي حمد إلى التعميم ويضيف: “جاوة لم تغيّر في حياة والدي فقط بل غيّرت في حياة الكثير من الحضارم الذين هاجروا إليها وأسسوا فيها تجارة، فاﻹنسان عنما يغادر بلاد أجداده تبدأ حياته تتغير شيئا فشيئا، وأصدقاؤه أيضا يتبدلون مع مرور الأيام، حتى تفكيرهم يتغير، ونظرتهم للحياة تختلف عن الماضي”.

ويلاحظ الراوي أن الهجرة إلى جاوة في تؤثر كذلك في حياة الحضارم في حضرموت نفسها؛ ويبيّن ذلك قائلا: “خيرات جاوة وصلت إلى حضرموت أيام ما كانت جاوة تعيش حياة السلم، كل من يغني في دوعن يذكرون جاوة في قصائدهم، يريدون السفر إلى جاوة”. ويذكر الراوي حمد أن أخته الجاوية قد جعلته يغير حياته في قريته، ويعترف “بعد مجيء خديجة الى دوعن تركت الجمالة وحياة البداوة، خاصة بعد وفاة صديقي سلوم”. ص45

ويركز الراوي كثيرا على الأثر الكبير الذي تركته الهجرة في الحياة العائلية في مدن حضرموت وقراها، ويقول: “جاوة خطفت قلوب الحضارم، الكل يحلم بالسفر الى جاوة، والزوجة في الوادي بين الجبال، تنتظر عودة زوجها أو أحد أبنائها أو أخيها، الكل ينتظر ويترقب اللقاء بين اﻷحبة، الكثير من الزوجات الدوعنيات لا يعلمن عن زواج أزواجهن في المهجر مثل والدتي، يرحمها الله، وبعد وفاتها وأنا عمري خمس عشرة سنة علمت أن لي أختا في جاوة اسمها خديجة. كان والدي لا يريد أن يجرح مشاعر أمي أمام نساء الوادي، فلو علمت انه تزوج عليها لاعتبرت ذلك أهانة لها ولاعتراها النقص والشعور بأنها ليست كبقية النساء. هكذا يفكرن معظم النساء عندما يتزوج عليها زوجها الزوجة الثانية أو الثالثة”. ص38

ويؤكد الراوي أنه، شخصيا، قد أجل الزواج بسبب شعوره بالتأثير السلبي للهجرة: “غياب الرجل عن زوجته خمس سنوات أو أكثر كما يفعل الكثير من المهاجرين، يطفي بريق الحياة الزوجية مع الأيام والسنين، ولذلك السبب تراجعت عن الزواج من مريم، خوفا من أن تمر بمصير نساء الوادي، لأن مصير الكثير من الرجال السفر إلى خارج الوطن، والزواج خارجه. فالسفر إلى جاوة أو إفريقيا أو الهند شتت بالحضارم، ذهب بهم بعيدا عن أنظار أهلهم وأوطانهم وأبنائهم. ولم أر رقة كرقة قلوب الرجال المهاجرين وهم ينشدون القصائد حنينا للوطن وشوقا للعودة إليه، وهم لا يرجعون. فكيف تحملوا ترك الأحبة في انتظار دائم؟”، ص38-39.

ويمكنني أن أذكـّر هنا ما كتبته عن معاناة المرأة الدوعنية والحضرمية بشكل عام في كتابي (حضرموت في كتابات فريا ستارك، دار جامعة عدن للطباعة والنشر، عدن 2004)، فقد قلت فيه “تتناول الرحالة البريطانية فريا ستارك، التي زارت دوعن عام 1935، معاناة المرأة المتزوجة والآثار السلبية التي تتركها هجرة معظم الرجال الحضارم وبقاؤهم سنوات طويلة في الغربة والزواج من امرأة أخرى هناك. وكمثال على ذلك تقدم لنا صديقتها نور، ابنة الحاكم السابق للمصنعة. فقد “كان لها، مثل أعمامها، عينان ناعمتان، وفم واسع، وأصابع طويلة، وملامح طبيعية جذابة، وطيبة ونبل في التعامل مع كل من يقترب منها. وقد تركها زوجها قبل ثلاث سنوات أو أربع وسافر للعمل في الخارج كما يفعل معظم الرجال في حضرموت. وبين الحين والآخر تصلها منه رسالة. وبما أن هذه المرة الأولى التي يتركها زوجها وحيدة، يحق لها أنْ تعود للسكن مع أهلها، أما المرة القادمة فلن يسمح لها بمغادرة بيت زوجها. هكذا هي العادة في دوعن؛ يعيش الرجال في الغربة بين خمس عشرة سنة وعشرين سنة، وأحيانا يتزوجون هناك من نساء أخريات لأن زوجاتهم المحليات لا يغادرن أبدا الوادي”. وتروي فريا ستارك قصة “عطية” التي جاءت إلى المصنعة لتطلب منها دواءً. “كانت فتاة جميلة، وقد غادرها زوجها منذ فترة قصيرة وسافر إلى الصومال. أنها تعاني من ألم مبرح وتريد دواء، وبما أنني كنت نائمة حين وصلت فقد أخذها محمود البواب إلى الغرفة العليا وقام بكيّها بحديد أحمر في أسفل القدمين. وحينما نزلت هبطت خلفي ويبدو أنها قد تعافت تماما ومبتهجة. وغنّت لنا بصوت عذب ونقي ومؤثر قصيدة تتمنى فيها أن يعود زوجها بالسلامة، واختتمتها قائلة: عُد! ابنة عمك تنتظرك وحدها حين يأتي المساء! وحينما ضحكن منها بقية النساء الحاضرات احمر وجهها ومدت ذراعيها قائلة: أليس هذا صحيحا؟ أليس هو ابن عمي ويحق لي أن أتمنى عودته؟ وحين سألتها:

– وكم من الوقت سيبقى في الغربة؟ ردت:

– آه! من يعرف؟ ربما عشر سنوات. فلتكن مشيئة الله.

وتنهّدت النساء جميعهن، إذ أنّ هذا الهم كان مشتركا؛ فكل واحدة منهن كانت تفكر، دون شك، في زوجها الذي تزوج من امرأة أخرى، بعيدا هناك. وقالت نور:

-إنّ الحياة في هذا العالم قاسية وليست سهلة للنساء كلهن”.ص51-52

مشكلة المولدين

في مدن وادي حضرموت يطلقون على الحضارم الذين ولدوا في جزر الأرخبيل الهندي [جاوة –إندونيسيا حاليا- وسنقافورة] من أب حضرمي وأم ملايوية: المولدين؛ مولد للمذكر ومولدة للمؤنث. ومن اللافت أن الراوي حمد في رواية (سالمين) يؤكد أن السكان في دوعن يطلقون على المولدة: (الجاوية). ومن المعلوم أن كثيرا من المهاجرين الحضارم حرصوا على ارسال أبنائهم المولدين من (جاوة) إلى حضرموت للتعليم أو الاستقرار في حضرموت، لاسيما خلال فترة الحرب العالمية الثانية وبعد نيل اندونيسيا لاستقلالها عام 1948. ويكرس الراوي الفصل السادس لرصد مغادرة الحضارم لجاوة خلال وبعد الحرب العلمية الثانية، ومنهم والده الذي يرسل بنته خديجة إلى دوعن برفقة السيد علوي.

وقبل أن يشرح حمد، في الفصل السابع، الطريقة التي انتهجها لإعادة تأهيل أخته (الجاوية) خديجة، وتمكينها من استيعاب حياة القرية في دوعن، يبيّن الدلالات السلبية التي تلصق عادةً بلقب (الجاوية)، قائلا: “تزعجني أحيانا ضحكات البنات عندما يسمعن كلمة مكسرة من خديجة، وأحيانا يزيد من حنقي لقب (الجاوية) الذي يطلق على أختي، وهي كلمة تطلق على كل مولدي جاوة من البنات أو الأولاد وفي طيها التصغير والتحقير أو النقص. في بدلاية الأمر لا تعي أختي خديجة معنى أن يطلق عليها الجاوية، ولا ضير في ذلك، وأحيانا يثير غضبها وحنقها. حاولت أن تنسجم في المجتمع القروي ولكن بصعوبة، فهي خرجت من عالم فسيح إلى عالم ضيق، من مدينة إلى قرية، أشعر بما تشعر به من الضيق”. ص35 ويضيف: “حاولت أن أبعد عنها لقب الجاوية الذي يطلق عليها من أهل القرية، لكن مخارج حروفها ووجهها الجاوي تؤكد ذلك، ويجعل اسم الجاوية لصيقا بها بدلا عن اسمها الحقيقي خديجة. لم يخطر ببالي أنه ستكون لي أخت من أم جاوية؛ فحالة الكثير من الحضارم الذين يسافرون إلى جاوة يتزوجون هناك، وفيما بعد يرسلون أولادهم، خاصة الذكور منهم إلى حضرموت، ليتعلموا اللغة العربية، وقد صادفت عددا منهم عندما كنت جمالا مع أبناء البدو، وكنا نحملهم على الجمال مع عفشهم من الساحل إلى الخريبة للتعلم، والبعض منهم يذهب إلى مدينتي تريم وسيؤن، وكانوا مهجنين تماما بدم عربي ودم جاوي، وبشرتهم شديدة البياض، ولغتهم العربية مكسرة”. ص36

الجذور ومسقط الرأس

تبين لنا رواية سالمين أن مسقط الرأس أهم من الجذور بالنسبة للمولدين والمهاجرين بشكل عام. وإذا كنا نصر على احتفائنا بحضرمية الآلاف من الحضارم الذين غادروا مسقط رأسهم حضرموت صغارا علينا كذلك أن نتفهم حب المولدين لمسقط رأسهم في الأقطار التي هاجر إليها آباؤهم أو أجدادهم ، كما يفعل ذلك الراوي حمد حينما يلاحظ حب أخته خديجة لمسقط رأسها جاوة؛ فهو يعترف: “خديجة، أختي، لم تنس وطنها جاوة، مسقط رأسها، وكلما جلست وحدها أسمعها تصدر صوتا، وعندما أنصت لها أسمع هذه الكلمات التي لها أثر كبير فيَّ: (ليت المكلا قريبة كل من عزم بالصبح يضوي بنوره)، أتعجب كيف للمهاجرين في تلك البقاع أن يتغنوا للوطن برغم أن البعض منهم لم يزره. أعجبني البيت وسألتها عن مصدره، فقالت لي: “هذه أغنية شيخ البار أسمعه من أبي في جاوة ويردده على لسانه حفظتها منه، والآن أنا أرددها على نفسي شوقا لأبي، فكلما أردد الكلمات التي يتغنى بها كأنني أشاهده يحدثني، ويغني لي”. ص36

ويضيف: “تردد خديجة على لسانها: جاوة، وتعيد الذكريات التي عاشتها هناك مع أهلها، فمسقط الرأس ﻷي إنسان مهما كانت جذوره يظل المكان المحبب للقلب، لا سيما لمن عاش فيه طفولته وشبابه، وخديجة أختي واحدة من هؤلاء، فهي لم تنس بلادها الأصلية: جاوة مسقط الرأس، بل ترى أن جاوة هي أرضها وتحلم بالعودة إليها”. ص37

ومع لك يحاول الراوي أن يقنعنا بإمكانية تكيّف الموالدة والجاويات – في النهاية- مع الحياة الضيقة في قرى حضرموت. فبالسنبة لأخته خديجة “كانت الاشهر الاولى هي الاصعب في حياتها في وادي دوعن، تشعر بفرق كبير بينها وبين بنات الوادي، ولولا موت أمها في جاوة ربما لم يكن والدي ليرسلها إلينا، فهي أصبحت غريبة في الوادي، لكن مع الأيام والشهور تعدل لسان خديجة وبدأت تنطق (حالك) بدلا من (هالك)، و(حلوة) بدلا من (هلوة). ولم أستغرب هذا التغيّر السريع في حياتها وتأقلمها مع بنات الوادي وحياة الوادي، وكنت متأكدا أن حياتها ستتغير، لكن مع الكثير من الصبر”. ص45

ثانيا- الحضارم في المهجر السعودي في رواية (سالمين):

أسباب هجرة الحضارم إلى السعودية وبعض سماتها

من المعلوم أن اختيار كثير من الحضارم، لاسيما الدواعنة، السفر إلى أرض الحجاز يعود إلى ما قبل القرن الماضي. وهناك عدد من الحضارم الذين تبوأوا بعض المناصب الدينية والسياسية في الحجاز قبل الحرب العالمية الثانية (انظر مسعود عمشوش: الدواعنة في الحجاز). ومما لا شك فيه أن هجرة الحضارم إلى السعودية اتسعت بشكل كبير بعد الحرب العالمية الثانية. فمنذ ذلك الحين أصبحت السعودية، لأسباب مختلفة، هي المحطة الأولى للمهاجرين الحضارم. وفي نهاية الفصل التاسع من رواية (سالمين) يشرح حمد أسباب تحول الحضارم من المهجر الشرقي في جزر الأرخبيل الهندي إلى المهجر السعودي، قائلا: “جاوة لم تعد حلم الحضارم بعد الحرب العالمية الثانية، بل أصبحت السعودية الحلم الجديد الذي بدأ الكثير يرنو إليه”.ص50 ويقول بشيء من التفلسف لكي يبرر قراره الشخصي بالسفر إلى جدة: “كنت الشاهد على توافد أهل جاوة إلى حضرموت، وسفر البعض إلى السعودية، فالحياة لا تتوقف في حد، ولا حدود للحياة، والناس في الحياة لا حدود لأفراحهم وأحزانهم، الحياة تعلمنا الدروس، لكن من ذا الذي يستفيد؟ السفر إلى جدة، وخاصة إلى جدة أخذ يدغدغ أفكاري. ويبدو أنه لا مشقة في ذلك والتجارة بقرب مكة خير من التجارة في مناطق بعيدة، وباستطاعتي تكوين تجارتي من المال الذي ورثته من أملاك أبي في جاوة. أمرت صالح عوض وكيل أبي أن يبيع بعض ما يملك والدي وإرسال ثمنه إليّ. لأن الأخبار التي تأتي من تلك البلاد لا تسر، إذ استولت الحكومة على أموال الناس، والحياة تصعب على الحضارم، والأموال لا تتدفق على حضرموت كما كانت”. ص50 ونتبيّن لاحقا أن صالح، والد حمد، كان قد أدى فريضة الحج من مهجره الشرقي، وقام باستخراج جواز سفر سعودي –وبالتالي جنسية سعودية- وأضاف فيه اسم ابنه حمد، وقام كذلك باستثمار جزء من ماله في جدة.

ومن الأمور التي يبرر بها حمد قراره السفر إلى جدة: الأوضاع السيئة التي كانت حضرموت تمر بها حينذاك، فهو يقول: “ما عليَّ إلا أن أشق طريقي إلى أرض الحجاز التي ذاع صيتها، والناس يسافرون إلى هناك، والأرزاق متوفرة وكثيرة، والأمان يسود، بينما في حضرموت القلاقل وقطع الأرزاق، وانجرامس مع حكومته يفرضون ضرائب على البدو”. ص50-51

إضافة إلى ذلك، يذكر الراوي سالمين أن من أسباب هجرة الحضارم، بعد مغادرة بريطانيا لأراضي الجنوب، رغبتهم في الهروب من النظام الاشتراكي وكثير من الإجراءات التي فرضها، مثل التأميم والخدمة العسكرية الإلزامية. ويؤكد الراوي سالمين: “كان الوصول إلى السعودية يعني تحقيق حلم التجارة والغناء بسرعة، الوجوه تتدفق من كل مكان إلى السعودية، وكان النصيب الأكبر للجيران (اليمن)، إذ حصلوا على فرص كثيرة واستثمروها وحققوا تجارة لا يستهان بها في المملكة العربية السعودية، فبعد وصولنا بعقود إلى السعودية اعتقدنا أن الهجرة ستتوقف بعد قيام الجمهوريات في الشمال والجنوب، لكننا رأينا العكس، فقد جاءت بعدنا أجيال، ولكل جيل خصوصيات وظروف مختلفة، فالجيل الذي أعقبنا، الذي جاء بعد قيام حكومة الجنوب، كانت هجرته بسبب قلة العمل وتأميم الدولة للبيوت، والأشخاص كلهم موظفون لدى الدولة، لا تجارة ولا استثمار، وسبب آخر: هو الخدمة العسكرية التي ينفر منها الشباب، ولا يريدون تأديتها ويضطرون للهجرة إما بجواز شمالي أو عن طريق التهريب، وفيما بعد تُصرف لهم إقامات”. ص78

ويُبرز الراوي إحدى أهم السمات التي، في رأيه، تميز هجرة الحضارم إلى السعودية عن هجرتهم إلى جاوة. فالهجرة إلى السعودية ضمت عددا كبيرا من الصبية الحضارم للعمل في البيوت. ويذكر حمد أنه عندما وصل إلى جدة نزل ضيفاً على سعيد ابن خاله الذي عمل صبيا عند إحدى الأسر المكاوية، ويقدمه على النحو الآتي: “سعيد أحد المهاجرين الدواعنة الذين سافروا مبكرا إلى مكة قبلي بحدود عشرين سنة، كان عمله شاقا مع الأسرة المكاوية، أول ما وصل مكة ذهب به أحد أقاربه إلى عائلة مكاوية تريد صبيا يغسل الصحون، ويجيب لهم البضاعة من البقالة وبعض أمور البيت، مثله مثل الكثير ممن سبقوه، خاصة الدواعنة الذين اشتغلوا صبيانا في بيوت أهل مكة يغسلون الصحون. وبعد مرور سنوات أصبح البعض تجارا صغارا وكبرت تجارتهم، مثل سعيد ابن خالي”. ص57-58 ويذكر حمد أن كثيرا من هؤلاء الصبية غيّروا أسماء عوائلهم الحضرمية إلى أسماء عوائل مكاوية من أجل الحصول على الجنسية السعودية. ص59.

سالمين ومشكلة التمازج في المهجر السعودي:

 من اللافت أن يحرص حمد، الذي جاء إلى جدة من حضرموت حيث لا تزال راسخة التركيبة الاجتماعية التقليدية التي تقسّم الحضارم إلى قبائل ومشائخ وقروان ومساكين وعبيد، والذي صُدِم كثيرا بما يعتمل في مجتمع ميناء جدة من تمازج وتزاوج بين السكان المسلمين من مختلف الأقطار والأجناس والفئات الاجتماعية منذ مئات السنين، على اصطحاب عبده الأسود سالمين معه إلى جدة، وأن يمنحه حريته والجنسية السعودية، وأن يجعله مساعدا له في تجارته.

ومن الواضح أن ذلك الحرص يعكس رغبة مؤلف رواية (سالمين) في تقديم بعض الظواهر التي برزت وسط المهاجرين الحضارم في السعودية وأبنائهم وأحفادهم من وجهة نظر أحد المهاجرين الحضارم الذين يقعون في أسفل التركيبة الاجتماعية التقليدية في حضرموت: العبد الأسود سالمين.

وفي الجزء الأول من الرواية يترك المؤلف مهمة تقديم سالمين لسيده حمد الذي قال عنه: “سالمين أحد أملاك والدي. اشتراه من وادي حجر، حالته كحال الكثير من العبيد الذين يشترونهم من مناطق قريبة أو بعيدة من حضرموت”. ص24

ولأن حمد كان في حضرموت يراعي كثيرا مشاعر عبده سالمين فقد أخفى عنه تفاصيل كثيرة عن أصله، لكنه في جدة، وبعد أن لاحظ التغير الكبير الذي طرأ على سالمين لم يتردد في الكشف له عن حقائق مؤلمة تتعلق بجذوره. وقال له: “هكذا يا سالمين نسيت البلاد بعدما وصلت إلى جدة، التهيت بالتجارة والمال وأصبحت حرا بعد العبودية وحياة التعب والبهذلة في تلك الجبال والأودية، ولعلك نسيت أبوك وأمك، ولم تبحث عنهم بعدما كبرت، ورزقك الله بالعيال والبنات والأحفاد. هكذا يا العبد..”. ص65

لهذا، عندما طلب سالمين من سيده حمد أن يخبره عن هوية أبيه وأمه يرد عليه: “يا سالمين، أنا لا أعرف لا أبوك ولا أمك. والدي اشتراك من تاجر من وادي حجر اسمه محمد عامر مقابل ثور. ولأول مرة يعرف سالمين أنه تم بيعه مقابل ثور. حاولت ألا أخبره بالحقيقة، لكن كانت زلة لسان مني بعد أن أخفيت هذه الحكاية لسنوات طوال عندما كنا نعيش في دوعن، لكن في مدينة جدة لا سر يختفي، وكل شيء ينكشف مع مرور الأيام. عندما سمع سالمين بالثور اهتز في مكانه، صمت للحظة ثم جهش البكاء، وقال لي: أرجوك يا سيدي حمد ألا تخبر أحد بحكاية الثور، أريد أن يكون هذا سر بيني وبينك إلى يوم القيامة، خاصة أولادي وأحفادي لا أريدهم يعرفون أنه قد تم بيعي مقابل ثور”. ص61 ويواصل الراوي حمد حديثه معمما: “سالمين العبد حالته كحالة الكثير من العبيد في حضرموت الذين لا يعرفون آبائهم أو أمهاتهم، فمن تمّ بيعه في السوق وهو صغير، وبيع أمه وأبوه في مكان آخر في حضرموت أو البلدان الأخرى المجاورة، أو تمّ اختطافه وهو صغير، لا يعرفون شيئا عن أهلهم”. ص61

وقد لاحظ الراوي حمد اهتمام عبده سالمين بظاهرة التمازج بين الفئات الاجتماعية والأجناس السائدة في جدة، والتي يطلق عليها “التهجين”، وقال: “كلما جلس سالمين مع أبنائه يعيد الحديث عليهم، ويوضح لهم فوائد التهجين في عالم مهجّن، ويشرح لهم شهوة التغير التي حصلت في جدة، فمعظم سكان جدة غيّروا من عاداتهم ومن شكلهم أيضا. فجدة مدينة الشهوة في كل شيء، لا شيء فيها غير قابل للتغيّر والتحول عبر الزمن من مرحلة إلى أخرى. ويكرر سالمين “وليش ما نهجّن عيالنا؟ وكل جدة مهجنة وقابلة للتغير، في حاراتها، في ناسها، وكل سنة تتبدل جدة بناس آخرين آتين من كل بقاع الدنيا، ويتم التهجين على مراحل وعلى مستوى العوائل؛ فهناك عوائل لا تحمل من تاريخها إلا الاسم فقط، فلو ننظر إلى أشكالهم نجدهم أشد بياضا من آبائهم وأجدادهم، لأنهم تهجنوا وتم الزواج من سلالة تختلف عن سلالتهم. تناسوا أصلهم وأرضهم، غرتهم حياة الدنيا كما غرتني، ومن حقي أن أهجنكم، فليس حلالا عليهم وحراما عليّ. وإلا هم بيض ونحن سود يحرم علينا التهجين؟”.69-70

 فبعدما استقر سالمين في جدة وتحولت حياته من العبودية إلى الحرية، وتحول إلى تاجر يملك الملايين وعمارات وفنادق في ومكة والمدينة، تزوج من امرأة بيضاء. ويخبرنا الراوي حمد أن “عقدة سالمين وسواده المفرط دعته أن يجمع أبناءه ذات يوم في مجلسهم ونصح كل واحد منهم ألا يتزوج من اللون الأسود”. ص67

وفي الواقع لم تكن ظاهرة (التهجين) محصورة في فئة معينة من المهاجرين الحضارم، فحتى نهاية الستينيات من القرن العشرين، لم تختلف الهجرة الحضرمية إلى السعودية، فيما يتعلق بطبيعتها الذكورية، عن الهجرة إلى جاوة أو إلى سواحل شرق إفريقيا. فالذكور هم فقط من كانوا يهاجرون للعمل، ويتزوجون هناك بنساء من المحليات أو من بنات المغتربين من الجنسيات الأخرى، وربما، في فترة لاحقة من بنات المهاجرين الحضارم الذين تزوجوا من نساء غير حضرميات. ويؤكد حمد أن ابن خاله سعيد قد “تزوج من عائلة سعودية من الطائف أصولها مغربية، وكان أولاده يختلفون كثيرا عن أبناء الحضارم في لون بشرتهم وهيئتهم”. ص61 وبالنسبة له، يعترف أنه، بعد مرور سنوات من وصوله إلى جدة، تزوج من سوسن، فتاة حضرمية تحمل اسم عائلة مكاوية. وكانت زبونته في أحد محلات الذهب! وكان مهرها تسجيل أحد محلاته باسمها. ويذكر حمد إنه أسرع في الزواج من سوسن، حضرمية الأصل ومكاوية المولد، والتي لم تكن مخلصة له، كرد فعل لما قام به ابن خاله سعيد، ويؤكد أنه “لولا زواج سعيد من الطائف لما تزوجت سوسن”. ص61

ويخبرنا العبد سالمين أن أرملة سيده حمد “سوسن المكاوية، تحولت إلى عاشقة، وتحول ابنها حسن إلى كل جنسيات الإبداع، من شاعر إلى كاتب إلى أديب، هي شهوة الحياة وعقدتها ومرضها التي تجعل الكثيرين يريدون أن يصبحوا شخصيات كبيرة ومعروفة وهم في الحقيقة لا شيء. لست أدري لماذا العظماء دائما أبناؤهم ضعفاء ومتسلطون. الشيح حسن أخذ من طباع أمه المكاوية، ولا غرابة أنه لا يشبه أباه، ومن شابه أمه فقد ظلم”. ص99

وكل ذلك لم يمنع سالمين أن يمتدح التهجين قائلا في نهاية الرواية: “عشت ثلاثة عوالم، عالم الطفولة والخطف، وعالم العبودية، وعالم التهجين في جدة، الذي أبصر النور لأحفادي الذين بدأ البعض منهم يتزوجون من بنات الحجاز أصلا وفصلا على سنة الله ورسوله، لكي ينبثق النور بعد الظلام، وتتبدد سيرة رجل أسود، ويبقى للون المهجن نكهته الخاصة التي تميزه عن الكثير من الأجناس”. ص103

نقد أحفاد المهاجرين الحضارم في السعودية

ومع ذلك انتقد سالمين كثيرا من سلوكيات أبناء المهاجرين الحضارم في جدة “الذين يشبهون أمهاتهم!”، ويتنكرون لجذورهم، ويرفضون زيارة حضرموت أو حتى سماع اسمها، ويقول: “أنا لا أستحي من حضرميتي برغم أنني أسود، وأرفع رأسي في جدة عندما يسألوني أنت من فين؟ أقول لهم من حضرموت، وليس كما يفعل البعض من عيال المهجنين الذين يقولون لك بلا خجل: “يا بويااااا أنا مش حضرمي، أنا سعوووودي …”. سالمين شاهد على تغيرات جدة، فأراد الله أن يمد بعمره ليشاهد بعينه التغيرات في حياته وحياة أحفاده الذين أصبح وضعهم مثل وضع البعض من أبناء الحضارم، الذين تهجنوا وأصبحوا يمقتون بلاد أجدادهم ولا يزورونها، وعندما يطلب منهم مجرد زيارة للبلاد يسمع منهم سالمين العبارة التي يسمعها عادة من الكثير من أبناء الحضارم وخاصة من أحفاده: يا بويا بلا حضرموت وبلا قرف، خلينا نروح إلى مصر بيروت أو باريس، إيش نسوّي في حضرموت، كلها غبار وقرافة”. ص69-70

وبسبب سلوكيات بعض أبناء المهاجرين الحضارم في جدة يضطر سالمين إلى مقارنة المهجر الشرقي بالمهجر السعودي، قائلا: “كانت جاوة سلة الحضارم والأرض التي يزرع فيها وينبت، وكلما تحركت التجارة هناك نرى حضرموت يصلها جزء من الحركة، وكلما ضاق الحال على جاوة ضاق حال حضرموت في أقصى الجزيرة العربية، جاوة هي المنطقة التي ستظل سيرتها بحضرموت والحضارم سيرة عطرة، سيرة بنيت على أساس قويم، وهو أساس الصدق والمحبة والعطاء بين الحضارم وأهل جاوة. كل من ذهب إلى جاوة جاء ومعه خير كبير، فكل البيوت عمرت في حضرموت من خير جاوة وخير إفريقيا، كان الشباب يذهبون إلى تلك البلاد يطلبون الرزق ويؤسسون لهم تجارة متواضعة، والبعض تجارة متوسطة أو تجارة كبيرة، والقرش يجيب القرش، وترسل القروش إلى البلاد لبناء البيوت وتعمير حضرموت”. ص99-100

إضافة إلى ذلك، يذهب سالمين إلى ربط النجاح التجاري لبعض أبناء المهاجرين في جدة بالمال الذي كسبه أجدادهم الحضارم في جاوة، إذ يقول: “كان الشيخ حسن [ابن حمد من سوسن المكاوية] يتشدق في كل مجلس بأنه تعب في التجارة، ولا يعلم أن التجارة أسسها جده صالح في جاوة، ومن ثم نقلها والده إلى مدينة جدة. وبعد صبر ومكافحة وصل سيدي حمد إلى خير كبير بفضل الله ثم بفضل مال والده الذي أسسه في جاوة”. ص99

في الختام، أعتقد أنه من الصعب إدانة سلوك الموالدة الإندونيسيين من أصل حضرمي أو المهجنين السعوديين من أصل حضرمي، فكما سبق إن ذكرنا- يظل الانتماء إلى مسقط الرأس أقوى من الانتماء إلى الجذور أيا كانت. وقبل أن يرفض (المهجنين الحضارم) في السعودية العودة إلى حضرموت، رفض أحفاد الحضارم الموالدة في جاوة، في ثلاثينيات القرن الماضي، مطالب آبائهم الذين توزعوا بين إرشاديين وعلويين، بوضع حب حضرموت قبل حبهم لإندونيسيا التي اعتبروها وطنهم الأجدر بولائهم. ويبدو لي أنهم على حق.

Comments are Closed