(رحلة إلى الثغرين)

(رحلة إلى الثغرين) لمحمد بن هاشم
مسعود عمشوش
لن يستطيع أي دارس لتاريخ الصحافة اليمنية أو الهجرة الحضرمية أو الدولة الكثيرية أن يتجاوز اسم مؤلف (رحلة إلى الثغرين) و(الدور الكافي أو الثروة الكافية) و(تاريخ الدولة الكثيرية)، الصحفي والمؤرخ والتربوي محمد بن هاشم بن طاهر (1883-1960): رائد محاربة الجمود في حضرموت، الذي كرستُ له قبل نحو عشر سنوات دراسة نشرتها في مجلة جامعة عدن الإلكترونية بعنوان (محمد بن هاشم بن طاهر: رائد الدعوة إلى التحديث في حضرموت)، ركزت فيها على دوره الريادي في النهضة الثقافية والتعليمية والصحفية في حضرموت، وذلك من خلال قراءة في كتابيه: (تاريخ الدولة الكثيرية) و(الدور الكافي: تاريخ الثروة الكافية ورجالها)، وما نشره من مقالات في مجلة (الإخاء)، التي أعاد محمد أبوبكر باذيب نشر جزءٍ منها في كتابه (مقالات الأستاذ محمد بن هاشم العلوي)، ومقالاته ومحاضراته وخطبه وقصائده التي جمعها الباحث علي بن أنيس الكاف في (مختارات من كتابات شيخ الصحافة الحضرمية الأستاذ محمد بن هاشم). أما في السطور الآتية فسأحاول أن أسلط الضوء قليلا على كتابه (رحلة إلى الثغرين: المكلا والشحر).
يذكر محمد بن هاشم في مقدمة الكتاب أن (رحلة إلى الثغرين) كانت في الأصل محاضرة طويلة ألقاها في 15 شعبان من عام 1350هـ، 1931، في مقر نادي الشبيبة المتحدة بمدينة تريم، وتمّ نشرها على نفقة آل الكاف في العام نفسه في مطبعة حجازي بالقاهرة عام 1350هـ. وتتضمن الطبعة الأولى من الرحلة (إهداء) ضمنه المؤلف شكرا لأبي بكر بن شيخ الكاف. وحينما أعيد نشر الرحلة أضاف صفحة أكد فيها على موضوعيته في سرد الرحلة وبُعدهِ عن التعصب والتحيّز. كما شكر فيها صديقيه شيخ بن عبد الرحمن الكاف ومحمد عمر حياة، اللذين قاما بالتقاط الصور الفوتوغرافية خلال الرحلة.
ويبدأ ابن هاشم سرد الرحلة بتحديد أهدافها الثلاثة؛ مبيناً أن أولها: استقبال رفيق صباه عبد الرحمن بن شيخ الكاف الذي سيصل إلى ميناء المكلا عائدا من سنغافورة برفقة عدد من أفراد العائلة. والهدف الثاني يكمن في مقابلة السلطان عمر بن عوض القعيطي من أجل “التعاون معه على الإصلاح العام في القطر الحضرمي، وتسهيل المواصلات، وتعميم الأمن وغير ذلك من الآمال الكبيرة”. أما الهدف الثالث فهو “التسلي والتنزه”.
ثم يشرع المؤلف في سرد أحداث الرحلة من وادي حضرموت باتجاه الساحل، ويبدأ بوصف تسلق القافلة عقبة (حرو)، عبر الجزء المنجز من طريق السيارات الذي بُدءَ في تمهيده بمبادرة آل الكاف وعدد من أثرياء تريم. ويؤكد أن الطريق متين، لكنه ضيق ووعر، ولم ينته العمل فيه، ويتوقف في ريدة المعارة. ويضيف أن الطريق بين الساحل والوادي كانت شاقة حتى بالنسبة للجمال والحمير؛ فبعد ريدة المعارة هناك عقاب خطرة ولا يمكن الصعود والهبوط بها إلا بحذر شديد. ويذكر المؤلف أن المرحوم حسن الكاف كلف المهندس عبيد باعديل الملقب بـ(الانقريز) بتمهيد بعض تلك الممرات الوعرة للمواشي.
ويستطرد ابن هاشم كثيرا في عرض المشاكل التي برزت عند تعبيد الطريق، ويضمّن الكتاب بعض المعاهدات [الوثور] التي عقدها أبوبكر بن شيخ الكاف مع عدد من قبائل البادية التي تمر الطريق بأراضيها، وعلى راسها آل جابر والمعارة. وعلى الرغم من حرصه على الابتعاد عن “التعصب والتحيّز”، فهو لم يتردد في توجيه نقد شديد لبعض قبائل الحموم التي رأت أن شق طريق السيارات قد حرمها من مصادر دخلها وحاولت عرقلة التقدم فيه. ورأى ابن هاشم أن استخدام القوة العسكرية معها سيكون أكثر جدوى، فقد كتب: “عند وصولنا إلى […..] لقينا العناء الكبير من [……..]، تحت ديارهم، فقد تعرضوا للجوالات [العربات]، الواحدة بعد الأخرى، واستوقفونا مطالبين بحق الخفارة، زاعمين أن ذلك الخفير الذي اسطحبناه راكبا على الجوالة [السيارة] المتقدمة غير كاف، إذ لابد في زعمهم لكل جوالة من شخص منهم يكون خفيرا لها. وكل هذا لينالوا حطاما يسيرا من النقود. وكان السيد أبي بكر الكاف قد سبر من قبل طباع هؤلاء الناس فأمر بتقديم الجوالة التي فيها الخفير، وهذه الحيطة لم تغن شيئا. واستوقفونا ولم يبالوا باحتياجاتنا واقناعاتنا، حتى جاءت الجوالة الأخيرة تقل السيد أبابكر فاستطاع بعد اللتيا والتَّي أن يقنعهم، وذلك لما يُعهد عنه من سخائه الحاتمي، وهنا يرى السامعون والقراء كيف يعاني الكرام من اللئام وكيف يصل اللؤم المتجسم بأولئك الأنذال السفهاء الذين يستهويهم الطمع ويغرهم حملهم السلاح وعدم وجود قوة تستطيع كبح جماحهم. وأننا لنتأكد لو أن النقود التي صرفت إلى أجربة هؤلاء المخلوقين وأكياسهم في سبيل مرور السيارات بأرضهم – لو أن تلك النقود صرف نصفها – نصفها فقط في شراء مدفعين رشاشين من نوع المترليوز تقلهما سيارتان مدرعتان ونصفها الآخر في التجهيز على تلك الخريبات المندثرة لأصبحت البادية كلها خاضعة والأمن مستتب على طول الخط، وقد صدق أبو الطيب إذ قال: إذا أنت أكرمت الكريم ملكته وإذا أنت أكرمت اللئيم تمردا”. ص15 وهو الأمر الذي قام به انجرامز بمساعدة أسراب عدة من طائرات القوات الجوية البريطانية، بعد بضعة شهور من تاريخ تلك الرحلة.
ومثل الرحالة الغربيين الذين دأبوا على تضمين سرد رحلاتهم أبعاد أنثروبولوجية، قدّم محمد بن هاشم في (رحلة إلى الثغرين) كثيرا من عادات القبائل التي مرّت القافلة بقراها. فهو، مثلا، يصف معتقدات البدو في ريدة المعارة، والشجرة التي تسمى “(دوحة المشط الكبيرة) والتي يبلغ طولها نحو متر ونصف ويمكن أن يستظل بها مئة شخص على الأقل. وهي شجرة يودع البدو تحت أغصانها كثيرا من أمتعتهم ويعتقدون أنه لا يتعدى عليها أحد إلا قصمه الله”. ص22 وبما أن الطريق المعبدة تنتهي في (الريدة) فقد قرر ركاب القافلة توظيف هذا المعتقد لصالحهم، “فتركوا السيارات تحت الشجرة وديعة عند المعارة بعد أن صار بينهم نزاع عظيم على اقتناء مصلحة الإيداع”.
ويستغرب المؤلف من التناقض الذي يلاحظه بين طباع رجال البدو الغلاظ وبين طباع نسائهم اللاتي يصفهن بالوداعة والهدوء. ص20
الأبعاد التاريخية في (الرحلة إلى الثغرين):
لا ريب في أن محمد بن هاشم الذي، بعد تسع سنوات من نشر (رحلة إلى الثغرين)، أصدر كتابه الثاني (تاريخ السلطنة الكثيرية)، قد ضمن نص رحلة أبعادا تاريخية واسعة وفي غاية الأهمية إذ أنها تشتمل على شهادات حيّة على ما كان يعتمل في حضرموت من قضايا حيوية، وتبين لنا طبيعة العلاقات بين السطنتين القعيطية والكثيرية قبيل توقيعهما على معاهدات الاستشارة مع بريطانيا في نهاية الثلاثينيات من القرن الماضي. وقد وضع المؤلف جزءا كبيرا من تلك الأبعاد التاريخية في الهوامش والحواشي الطويلة؛ ففي كثير من الصفحات لا يشغل المتن إلا عددا بسيطا من السطور: اثنين أو ثلاثة أو أربعة. وفيما بين صفحة 30 وصفحة 52، مثلا، ينقلب الهامش متنا متكاملا يتضمن تاريخ كل من السلطنتين القعيطية والكثيرية، وإشارات كثيرة لدولتي آل بريك وآل غرامة. كما يقوم المؤرخ ابن هاشم بتضمين الرحلة النص الكامل لاتفاقية عام 1919 بين القعيطي والكثيري، التي بموجبها فقد السلطنة الكثيرية بعض صلاحياتها وحقوقها؛ وأهمها إخضاع مخاطباتها ومراسلاتها مع الانجليز لنوع من الوصاية القعيطية. وقد انتقد ابن هاشم صراحة تلك الاتفاقية في متن الرحلة، حينما كتب: “ومعاهدة عدن التي يشير إليها سموه هي معاهدة أبرمت في 27 شعبان من عام 1336 هـ أيام سلفه السلطان غالب بن عوض، إذ اتفقت دولتا القعيطي وابن عبد الله بعدن على معاهدة جاءت كلها آية في التغرير والإيهام، وغريبة جدا في منافاتها للارتكاز على ما يسمونه مصلحة الطرفين، فلا غرو إذا هي لم تثمر إلا من نوع بذرها”. ص49
كما يضمّن ابن هاشم نص رحلته المراسلات التي تمّت بين عبد الرحمن وأبي بكر الكاف وبين السلطان عمر بن عوض الذي رضي أن يقابلهما ويناقشهما كصديقين، لكن ليس بشكل رسمي، وأخبرهما أن مناقشة القضية الحضرمية “إصلاح حضرموت…… ينبغي أن تتم في وقت لاحق وبحضور ممثلين لآل كثير والإنجليز”. ومن أهم ما جاء في تلك المراسلات رسالة بعثها آل الكاف خلال إقامتهم في المكلا للسلطان القعيطي في اليوم الثالث من وصوله إلى المكلا: “الحمد لله ..، أيد الله حضرة السلطان المعان عمر بن عوض القعيطي أدام الله مجده. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ونسأل الله لكم دوام السعادة والهناء. والأمل في عظمتكم أن تتكرموا بتعيين وقت خاص لنقابلكم بفيه والمولى يؤيدكم بعنايته والسلام. عبد الرحمن وأبوبكر بن شيخ الكاف”. ص44
ويذكر ابن هاشم أن السلطان عمر بن عوض القعيطي وصل إلى المكلا يوم السبت، “وفي يوم الاثنين بدأت المفاوضات الإصلاحية بين السادة آل الكاف وعظمة السلطان شفاهة وكتابة [هامش1]، وكان المقصود منها الحصول على طريقة تضمن للقطر وأهله السعادة والفلاح”. لكن يبدو أن ما كتبه المؤلف هنا ليس دقيقا. ففي الحقيقة، ومن خلال ما كتبه في الصفحات التالية، يتبيّن لنا أن السلطان عمر بن عوض قَبِل أن يتحدث مع الأخوين عبد الرحمن وأبي بكر ابني شيخ الكاف فيما يتعلق بشؤون العائلة فقط، لكنه رفض تماما أن يناقش معهما الشأن الحضرمي وإصلاحه، وتنظيم مؤتمر إصلاحي وطني تنفذ قراراته حكومتا القعيطي والكثيري، ورفض كذلك إلغاء الرسوم الجديدة التي فرضها السلطان القعيطي على الداخلين والخارجين من سدة الشحر [وهم أساسا من أبناء سكان الودي] على الرغم من أن آل الكاف كررا طلبهما له مرات عدة. والدليل على ذلك أن ابن هاشم كتب في [الهامش1] “لننقل هنا شيئا مم دار في المكلا من المكاتبات بين حضرة السلطان عمر والسادة آل الكاف إبرازا للحقيقة ودحضا لما يشيعه بعضهم من الباطل ونسبة السلطان للجفاء والغلظة وعدم المجاملة والدفع في صدور المصلحين بالشدة والجفاء.” ص43 وفي هامش الصفحة 45 يضمن المؤلف خطابا من السلطان عمر للأخوين الكاف يطلب فيه منهما العودة بعد أربعة شهور لمناقشة الشأن العام بحضور آل كثير والإنجليز وبعض الأجانب. ورد عليه الأخوان على النحو الآتي: “الحمد لله، في يوم 25 جماد الأول سنة 1350، حضرة السلطان عمر بن عوض القعيطي أطال الله بقاءه، وبعد تقديم ما يليق بمقامكم السامي من التحية والسلام، نرفع إليكم أننا تناولنا كتابكم الكريم وفهمناه. والحالة الحاضرة لا تحتمل التأخير. وعزمكم على الإقامة هنا نحو شهرين كما بلغنا مدة كافية للمفاوضة في الإصلاح العمومي. والأمة على غاية من الضيق، والضغط من الفوضى واختلال الأحوال. وما ذكرتموه من تعبنا من الجلوس هنا يمكننا الصبر عليه في مقابل حصول المأمول. وأهل حضرموت قريبو التناول يمكن طلب من نريد منهم في أقرب وقت. والله يتولاكم والسلام. عبد الرحمن وأبوبكر أبني شيخ بن عبد الرحمن الكاف.
ورد عليهما السلطان في اليوم نفسه على النحو الآتي:
“الحمد لله وحده، في المكلا 25 جماد الأول سنة 1350،
حضرات الأجلاء الكرام السادة الفضلاء عبد الرحمن وأبو بكر أبنا شيخ الكاف المحترمين، بعد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، الموجب كتابكم وصل، وما شرحتموه صار لدينا معلوما، وعن شأن أمر الإصلاح الحضرمي العمومي، هو كما شرحنا لجنابكم، إذ لم نتمكن في الوقت الحاضر أن نقيم هنا طويلا، وأنتم قد وصلتم من أماكن بعيدة ورائدكم الإصلاح ومجتهدين فيه غاية. فرحنا منكم جزيل الفرح، وسيتم الإصلاح الخصوصي فيما بيننا. واما الإصلاح العمومي الحضرمي فسيكون له مؤتمر خاص، وسيحضرون إليه من كل الناس من الخارج والداخل، وهناك يظهر كل رأيه من الأمور التي يتعلق بها الإصلاح العائد بالمنفعة للخاص والعام. ويكون العمل عليه. ويلزم حضور بعض الأجانب حسب طلب سلاطين آل كثير ………… وهذا بلسان السادة آل المحضار كفاية والسلام عمر بن عوض القعيطي”ص46
ومن الأبعاد التاريخية المهمة التي نعثر عليها في كتاب (رحلة إلى الثغرين) رصد المؤلف لموجة وصول الغربيين إلى حضرموت خلال الثلاثينيات من القرن الماضي، التي يرى أنها ظاهرة سلبية، بل وخطيرة وينبغي الحد منها. وقد عبّر المؤلف عن رأيه المتحفظ تجاه تمكين الغربيين من الوصول إلى وادي حضرموت في ذلك الحين لإيمانه بأن كل غربي لا يمكن أن يكون خاليا من النوايا التبشيرية والاستعمارية، ولأنه يرى أن الحضرمي لا يزال غير محصن من الوقوع في براثن تلك النوايا. فخلال الرحلة، يلتقي ابن هاشم وآل الكاف، بعد عودتهم من المكلا إلى الشحر، بالرحالة الألماني هانس هيلفريتس، الذي قام برحلته الأولى إلى وادي حضرموت في ذلك العام (1931)، فهو يكتب: (يوم الاثنين سرنا وحضرة الدكتور صديقنا لإقناع السائحين الألمانيين بأن لا يجازفوا بأنفسهم في السياحة بحضرموت لجهلهم باللغة العربية بل والإنكليزية إلا نزرا يسيرا جدا. ولعدم وجود ترجمان معهم ولقلة النقود التي بأيديهم. ولكنا رجعنا كما ذهبنا لأن الرجلين صمما على السياحة بحضرموت مهما كلفهم الأمر. إن رغبة الأجانب في السياحة بحضرموت أمر بدأت الرغبة فيه تتجلى في السنوات الأخيرة. ولا ريب أنهم بذلك يتبارون بين قومهم لاقتحام الأخطار ومكابدة المشاق والمغامرة بأرواحهم في بلاد بعيدة عن المدنية، لا قناصل لهم فيها تخاطب عنهم ولا قوانين دولية تحميهم، فهم علاوة على الاكتشاف الجغرافي تجدهم فخورين بهذه المجازفة التي يتباهون بها مثلما يفعل الداخلين إلى مجاهل إفريقيا ومثاوي متوحشيها. وهذا أمر له ما بعده، إذ من البديهي أن الأوروبي لا تطأ قدمه أرضا إلا وكان الاستعمار والتبشير أو كلامها معا، نتيجة لذلك إذا لم يأخذ أهلوها الحيطة لهاتين الكارثيتين. والاستعمار والتبشير أنما يقلبان على الأمم الجاهلة بشؤون الحياة والمتأخرة في المعارف والفنون العصرية، لأن الأسلحة الجادة سواء كانت علمية أو عملية لا تقاومها الأسلحة العتيقة التي كانت تستعمل في القرون الوسطى. وأننا لنرى حضرموت لأضعف عنصرا وأقل قدرا من أن ترفع بصرها لمقاومة هذين التيارين اللذين اكتسحا بلادا وأمما كانت أكثر من حضرموت عمرانا وأقوى شكيمة وأرقى علما”. ص56
ويمكن أن نضيف إلى تلك الأبعاد التاريخية ما كتبه ابن هاشم عن تخلف التعليم في حضرموت في تلك الفترة. فبعد عودته برفقة آل الكاف من المكلا إلى الشحر تمّ الاحتفاء بهم بشكل كبير، ونظمت جلسات الشعر والشبواني، والحفلات المدرسية. فمن المعلوم أن أبابكر بن شيخ الكاف كان قد أقنع محمد بن هاشم بالعودة من مصر إلى تريم عام 1926 ليقود عملية تحديث التعليم في تريم ويشرف على سلسلة المدارس التي قامت عائلة الكاف بفتحها في وادي حضرموت. وقد ضمن ابن هاشم، الذي في الواقع لم يستطع أن يفرض آراءه التربوية الحديثة في تريم، نص الرحلة بعض آرائه التربوية، وكتب فيها: “إن حضرموت كلها ليس بها للمعارف سوق ولا رواج، وإن وجدت بها كتاتيب الأطفال فإنما هي أمكنة حقيرة وظيفتها إخراج من يؤمها من عمق الأمية إلى طرفها. وفي أمهات المدن كتريم وسيئون وغيرهما معاهد مبعثرة تقتصر على تدريس الفقه والنحو وسرد من التفسير والحديث وكلام السلف”. هامش صفحة 53.
الأبعاد الفنية في (رحلة على الثغرين):
لا شك في أن لقد طغيان الجانب التاريخي في (رحلة الثغرين) قد ادى إلى اعتماد مؤلفها على تقنية السرد بشكل كبير، لكن ذلك لا يعني أنه لم يوظف الوصف في بعض أجزاء نصه. ومن أمثلة مزجه للسرد والوصف ما كتبه عند استقبالهم للسلطان عمر بن عوض القعيطي عند عودته من عدن إلى المكلا في نهاية سبتمبر 1931: “يوم السبت صباحا قدم حضرة السلطان عمر بن عوض من عدن على باخرة من بواخر شركة كوسجي، فذهبنا مع الرفاق لملاقاته وقابلناه في قاعة الاستقبال هناك، فإذا هو رجل مديد القامة أبيض البشرة حليق الذقن له شاربان مرتفع طرفهما إلى أعلى على الطريقة الغليومية معتدل الجسم في العقد السابع من عمره. فقابلنا ببشاشة وطلاقة وجه، لابسا بدلة سوداء وعلى رأسه طربوش، ومتمنطقا بخنجر ثمين من نوع يقال له عند أهل حضرموت (جنبية)، ثم نزلنا وإياه إلى البر بين الهتاف والزغرطة. وما أن وضع قدمه على الرصيف حتى أطلقت المدافع وصدحت الموسيقى. وكانت العساكر النظامية مصطفة والأعلام خافقة والشوارع مزدحمة”.
كما قام مؤلف الرحلة بوصف مدينة الشحر؛ شاطئها وبوابتها وشوارعها وقصورها وبحرها. فعند وصولهم الشحر يتوجون مباشرة للنزهة في الشاطئ، ويكتب: “وفي العشية رحنا وجماعة من الرفاق إلى شاطئ البحر لشم نسيمه العليل الذي بَعُدَ عهدنا به، والتسلي برؤية تموجاته السارة. وللبحر واصطخاب أمواجه منظر بديع فعال في النفس، لاسيما لمن شاهده من قبل، أو غاب عنه طويلا. والبحر خلق عظيم يمثل سلطان الطبيعة وجبروتها وتذهب رؤيته بالنفس والشعور مذاهب بعيدة في التصور والخيال. وأن انكسار الأمواج على الصخور وارتدادها على الشاطئ لشعر مؤثر تتغنى به لسان الطبيعة، ويفهمه الكاتب والأمي، والسميع والأصم على السواء”. ص30
على الرغم من أن ابن هاشم كتب في نصه أن الشحر “أوسع مدائن الموانئ القعيطية”. ص28، فهو يكتب عند تقديمه لثغر المكلا: “والمكلا ميناء تجاري يظهر جميلا وشائقا من البحر، إلا أنك إذا دخلت البلد وجدتها ضيقة وشوارعها قذرة. وبها شارع واحد عمومي يمتد من طرفها الشرقي إلى طرفها الغربي. وهي أشهر موانئ حضرموت، واقعة على ضفة البحر العربي. يبلغ سكانها نحو العشرين ألفا. وهي الأن عاصمة الدولة القعيطية. وبها سراية السلطان عمر الجديدة التي بناها لنفسه. وفي المكلا قصر السلطان القديم الذي ابتنته الدولة الكسادية، ولا يزال حافظا رونقه ويسكنه بعض حرم العائلة المالكة. وفيها (الباغ) وهو الحديقة التي تكتنف قصر الدولة الرسمي الذي ينزل من جاء من السلاطين من الهند. وترداد البواخر إلى المكلا القادمة من عدن والهند وافريقيا وأوروبا وجاوا أكثر من تردادها إلى الشحر. وعليه فوارداتها وصادراتها أكثر من أختها، وحركتها التجارية أقوى. ويبلغ ما يصدر يوميا من القوافل على وجه التقريب مائة وخمسون جملان بينما الشحر لا يصدر عنها إلا نحو ثلثي هذا القدر”. ص51-52
إضافة إلى الوصف حرص ابن هاشم إلى تقديم بعض مناظر رحلته ومشاهدها من خلال تضمين نص كتابه، في طبعته الأولى الصادرة عام 1931 عددٍ كبير من الصور الفورتوغرافية التي قام بالتقاطها –كما سبق إن ذكرنا- صديقاه: شيخ بن عبد الرحمن الكاف ومحمد حياة. ولا شك أنه قد أقدم على ذلك متأثرا بما وقع بين يديه من كتب الرحالة الغربيين عن حضرموت.
وفي ختام هذا العرض لكتاب ابن هاشم (رحلة على الثغرين) علينا أن نشير إلى أن المؤلف قد استخدم في نص رحلته اللغة العربية الفصحى التي لا تخلو من بعض المفردات والتراكيب القديمة (أو المتفاصحة)، التي لن يستطيع القارئ العادي الوصول إلى معناها اليوم، مثل: أضغثا على إبالة، أو حمر لجمع حمار. وفي حالات نادرة جدا، وحينما يريد أن يضفي على نصه شيئا من الفكاهة يستخدم ابن هاشم النثر المسجوع، فقد كتب مثلا: “وهجم علينا الظلام وكدنا نتيه لولا أن استوقف الرفاق بعض البدو فوقفوا حتى وصلناهم، ولا تسل عن المعركة الكلامية التي التحمت بيننا وبينهم حينما أدركناهم، فقد أطلقنا عليهم رصاص التوبيخ وقنابل التعنيف، ومن حسن أخلاقهم أن قابلونا بسلاح الاعتذار ودروع الاحتمال، فخرجنا من المعركة ظافرين عاذرين”. ص62
Comments are Closed