موقع ثقافي تعليمي

الطبيب قيس غانم روائيا

بعد حياة مهنية لامعة في رسالة الطب ونشر عدد من المؤلفات في هذا المجال، أتى وقت الرواية الخيالية الجريئة. فبعد أن حظيت روايته الأولى -باللغة الإنجليزية- (الرحلة الأخيرة من صنعاء) نشر الدكتور الكندي المولود في عدن قيس غانم روايته الانجليزية الثانية “صَبيان من معهد عدن”، التي سلمني الأستاذ السوداني حسن محمد سعيد نسخة من ترجمة موجزة وعرضا لها يقعان في 25 صفحة، وسيقوم بتقديمها الأربعاء القادم في نادي المقة بصنعاء. والدكتور غانم ترأس الجمعية الكندية للأطباء المتخصصين في الفيزيولوجيا العصبية السريرية بين عامي 2002 و2005، وسبق له أن درّس الطب في جامعة أوتاوا، وكان مدير مركز أمراض النوم في المستشفى التابع لهذه الجامعة العريقة، كما أنه ترشح عن الحزب الأخضر في انتخابات تشرين الأول (أكتوبر) 2008 الفدرالية عن إحدى دوائر العاصمة الفدرالية، أوتاوا. ويرافق القارئ شخصياتِ روايتيه في سعيها للنجاح والحرية وفي أجواء تتمازج فيها السياسة والتاريخ وحقوق الإنسان والسفر والترحال والحنين إلى الوطن إضافةً إلى المحظورات الاجتماعية في المجتمعات العربية والمسلمة، وقد تناولها كلها الدكتور غانم بجرأة لافتة.

وفي ما يلي قراءة ممتاز لرواية قيس غانم الأولى : الرحلة الأخيرة من صنعاء كتبها الأستاذ السفير رياض العكبري

الرحلة الأخيرة من صنعاء أو الحرية بعيدا عن السلطة الاستبدادية

ما أن فرغت من قراءة رواية د. قيس غانم: ‘الرحلة الأخيرة من صنعاء’ FINAL FLIGHT FROM SANAA حتى اتصلت به مهنئا أياه، في المقام الأول لأن يراع الطبيب والشاعر تمكن من ان يكسر حاجز التردد في الولوج الى عالم كتابة الرواية كأول تجربة له في استخدام مخيلته الواسعة التي ينبغي حسب قوله في تقديمه للرواية: ‘ان”تستخدم فقط’لخلق’الروايات’التي تتكون من’أزمات، الواحدة تتلو الأخرى،’والتي تتخللها’نوبات من’الجنس المثير’والعنف المتردد’. والحقيقة ان د. غانم في سرده الروائي المشوق لقصص من قصص الحياة، لم يركن فقط الى مخيلة الراوي، ولكنه عززها كذلك بخبرة ومهنية الطبيب النفساني العارف بمكنونات شخصياته النفسية بكل تعقيداتها، ما بطن منها وما ظهر.

ليس من السهل في مناخات التطرف السائدة اليوم اقتحام الرواة والكتاب والمثقفين لفضاءات ‘محرم’ الولوج اليها بحرية، موصدة في العادة بالقيود والأصفاد التي تحول دون التجرؤ على معالجتها أدبيا وفكريا من دون ان يكون الكاتب عرضة لسيف الفتاوى البتار ولمختلف انواع الاقصاء والتخوين لا بل حتى احتمال تكفيره واهدار دمه كما هو جار اليوم في اليمن، الا ان المثقف الذي يستطيع تهشيم جدران الخوف والتخلف انما يسهم في اذكاء واشاعة بيئة الحوار الصحي الذي يسهم بدوره في تقوية نسيج التواصل الفكري الانساني الحر من دون ارهاب او ابتزاز. وهو ما اعتقد ان د. قيس نجح على وجه العموم في الاسهام في تحقيقه من خلال قصة نجاحه هو شخصيا في المجتمع الكندي كناشط وطبيب ومخرج برنامج اذاعي وكاتب مقالات ومرشح في الانتخابات الفيدرالية، ومن خلال كتاباته الصحفية وأدبه وطريقة عرضه لروايته، التي تبدو في بعض من ‘نوباتها’، على حد قوله، عصية على الاستساغة حتى من قبل أولئك الأكثر ليبرالية من القراء والقارئات المسلمين. وحسب ‘ادوارد سعيد’ فان: ‘المثقفين’؛ هم تلك الشخصيات التي لا يمكن التكهّن بأدائها العلني؛ أو إخضاع تصرفها لشعار ما، أو خط حزبي تقليدي، أو عقيدة جازمة ثابتة’، بينما’يقول ‘أنطونيو غرامشي’: ‘إن بإمكان المرء القول إن كل الناس مثقفون، لكن ليس لهم كلهم أن يؤدوا وظيفة المثقفين في المجتمع، ما لم يتوفر لهم وعي نقدي حاد بأنفسهم وبالمشكلات التي تعترض مسيرة مجتمعهم’.

وبطل الرواية الطبيب طارق حكيم المهاجر من عدن، والذي طلب مناداته باسم ‘اريك’ اسوة بعدد من المهاجرين المسلمين في الغرب الذين غيروا اسماءهم الأصلية بأسماء غربية، يعكس شخصية مركبة من جهة كونه الليبرالي الميول الذي اندمج في الثقافة الغربية بصورة كلية، والذي ظل بعد ان هجرته زوجته السكوتلاندية مع احد مرضاه يتنقل بسلاسة رغم كبر سنه بين أمكنة وأزمنة متنوعة ومتباعدة. ذلك في الواقع مكن الراوي من ان يروي بلغة انكليزية متمكنة قصصا تجبر القارئ بعد قراءتها على التأمل في مدى ارتباطها بشواغله وهمومه الشخصية والعامة المستقاة من بيئته وواقعه المحيط به، وذلك من خلال العرض الروائي لتجاربها ووقائعها وأماكنها وشخوصها بالرغم من تنوعها وتنافرها في الطباع والخلفيات والتجارب والثقافات.

وفي حبكة روائية موفقة تمكن الراوي من ترتيب اللقاء الأول لحكيم في احدى حانات اتاوا مع كولن المحامي الأبيض العازب الذي هجرته زوجته حينذاك لترتبط باحد العاملين معه في مكتب المحاماة، والذي سيكون القناة التي تقوده لاحقا الى صنعاء للقيام بمهمة التفتيش الفني على صفقة المعدات الطبية التي اشتراها اليمن من بولندا. ذلك اللقاء الذي شكل في الواقع نقطة بداية الرحلة الطويلة التي امتدت اربعين عاما منذ ان هاجر حكيم الى كندا قادما من مستعمرة عدن آنذاك، حتى لحظة احتلاله لمقعده على طائرة لوفتهانزا في ما أسماها ‘الرحلة الأخيرة من صنعاء’، او حسب العنوان الفرعي للفصل الأخير من الرواية ‘الرحلة نحو الحرية’. الحرية لا من أقبية المخابرات وزنازين التعذيب والاختفاء فحسب، بل الحرية والنجاة من شبح الخوف المتولد من خطورة وعواقب الاقتراب من الخطوط الحمراء التي هي في تماس مباشر ليس فقط مع مراكز ومخالب القوة والنفوذ والسلطة الاستبدادية التي لا ترحم، بل مع منظومة مجتمعية متكاملة تزخر بكم هائل من المحظورات والتابوهات التي تتداخل فيها مفردات السلطة والمرأة من حيث هي جسد بلا روح وموضوع لعبودية الشهوة الجنسية والمتعة السادية، وممارسة الشذوذ والعنف والتهميش، والفساد المادي والأخلاقي، والخرافة والتجهيل الممنهج، لتغدو جميعها عبارة عن عناوين متعددة لكتاب واحد اسمه المجتمع الرجولي الفظ والأناني، بكل قوانينه الجائرة بحق المرأة التي لا علاقة لها البتة بالتعاليم والقيم العظيمة للدين الاسلامي الحنيف.

وفي سياق سرد ابطال الرواية لقصصهم، تتنوع وقائع الرواية في أمكنتها وأزمنتها وظروفها، بدءا بحوارات حكيم مع كولين التي كان محورها الصورة النمطية للعرب والمسلمين المرتبطة بالارهاب والعنف والموقف ازاء المرأة، وكذلك حول مصطلحات كالمعتدلين العرب والمسلمين الذي كان سائدا بقوة الى ما قبل اندلاع الثورات العربية، والمقصود هنا الأنظمة الدكتاتورية العربية والاسلامية الحليفة للغرب. و طرقت الرواية نماذج متعددة للمرأة من خلال ماجدة المهاجرة من الكويت الى كندا بعد مرورها بتجارب اجتماعية مريرة، ولبنى البنغاليه الشابة التي تنتمي الى الجيل الذي ولد أو ترعرع منذ الطفولة في كندا بكل خياراته التي تختلف عن جيل الآباء والأمهات، والتي أحبت رايان الذي رفض ابوها تزويجها اياه رغم استعداده لاشهار اسلامه، ومرورا بجيتا الدنماركية العاملة في منظمة ‘امنستي’ التي لعبت لاحقا دورا في العثور عليه في احد سجون المخابرات في صنعاء، وانتهاء بمنى ابنة صديقه في صنعاء التي مكنت قصتها الراوي من اضاءة زوايا مظلمة قاتمة من زوايا المجتمع الرجولي وحكاياته.

ومما يدعو للتأمل تلك الهوة العميقة بين قرار والد لبنا رفضه تزويجها من رايان وتهديداته لها بالعقاب رافضا مجرد اللقاء به حتى لو أشهر اسلامه، وبين حرص زوج جيتا الدنماركية على ان لا يكدر صفو معاشرتها لحكيم طالما انها سعيدة بذلك. انها منطقة مثلث برمودا التي تضع مزيدا من التحديات الناجمة عن الهوة بين ثقافتين مختلفتين، ثقافة وقيم المجتمعات الغربية، والعادات والتقاليد التي جلبتها معها الجاليات المسلمة من مواطنها الأصلية. وكنموذج مثالي لذلك البون بين الثقافتين تعرضت الرواية لتكرار حدوث جرائم الشرف وغسل العار ، التي كان آخرها قضية عائلة ‘شافية’ الأفغانية التي احتلت في الأسبوع المنصرم المساحة الأبرز في التغطية الاعلامية ونشرات الأخبار والبرامج الرئيسية الكندية لحد ان النقاش الواسع المتواصل الذي حظيت به محاكمة’العائلة الأفغانية والحكم الصادر بحق الوالد والأم والأخ بالسجن المؤبد، أسهم سلبيا في تثبيت الصورة النمطية عن الاسلام والمسلمين السائدة في الغرب، وكشف عن جسامة الخلل في نمط تفكير العديد من القادمين الى مجتمعاتهم الجديدة الذين ما زالوا مشدودين الى التقاليد التي هاجرت معهم من أفغانستان أو غيرها من المواطن الأصلية. قال لي د. قيس ان رسالته الرئيسية التي أراد ايصالها عبر روايته هي ان الجاليات العربية والمسلمة أمام تحد خطير يهدد بعزلتها ان هي اختارت عدم الاندماج الصحيح في المجتمعات الجديدة التي اختارتها كوطن جديد لها ولأحفادها من بعدها.

ان لم يذهب الأدب بكل أنواعه بعيدا في أغوار التحديات الماثلة أمام الجاليات المسلمة في الغرب، فإن المشكلات الناجمة عنها حتما ستنمو وتكبر مع مرور الزمن، وفي تقديري فإن مساهمة المفكرين والأدباء والباحثين والمتخصصين في حل مشكلات وتحديات الجاليات المسلمة المهاجرة تكمن في تكثيف اجراء الدراسات المعمقة والقيام بتنفيذ البرامج والمشاريع المدروسة لضمان تحقيق التوازن في اندماجها في المجتمعات الجديدة، والذي لا يعني بالضرورة الانصهار او عدم الاحتفاظ بالجذور والقيم الثقافية التي لا تتعارض مع قيم وقوانين المجتمعات الجديدة، والتي، مثلما هو الحال في كندا ، تقوم على التعددية الثقافية وتعترف بها وتشجعها، حيث تقدم الحكومة والمجتمع هنا كثيرا من المساعدات لتشجيع عملية الاندماج والمشاركة الحية لا الانعزال والتقوقع.

Comments are Closed