موقع ثقافي تعليمي

فتات الإنسانية

أحمد صالح، آفاق جامعية،2004

وحدها، كانت واقفة، وقد تدثرت بعباءة سوداء فضفاضة تخفي داخلها تقاطيع جسمها المكتنز، الطويل. أما رأسها فقد غطته بمنديل بنّي داكن أضاف إلى لون وجهها القمحي وهجا طبيعيا لافتا للانتباه. كانت تنظر أمامها وعلى محياها ما يشبه الابتسامة المنكسرة. تهيأ لي أنها تحاول أن تخفي شيئا ما.

كنت واقفا على مسافة خطوات منها. نظرت إليها متسائلا: ما هو ذلك الشيء؟ ما السر الذي تخفيه تلك الابتسامة؟ هل هي الوحدة؟ الخوف؟… أو الحرمان؟ من طريقة شدها لقبضتي يديها بدا لي أنها تشعر بالبرد على الرغم من أن الجو كان ربيعيا. دافئا. لا شك أنها شعرت أنني أنظر إليها، إذ أنها أدارت وجهها قليلا نحوي وأشاحته بسرعة.

مرّ “ميكروباص”، ومن علامته الزرقاء عرفت أنه متجه إلى المعلا. وحين توقف أمامنا سألت السائق: “عدن؟” ولم يجب بل واصل طريقه. وظلت هي مكانها. وجاء رجل وامرأة ومعهما طفلان ووقفا على يساري، ولكي أفسح لهم المكان اقتربتُ نحوها. ونظرتُ إليها مرة ثانية مرتبكا. ونظرتْ هي كذلك نحوي ثم إلى الأرض. وحدقتُ مرة ثانية في وجهها لاستكشف ما يخفيه. كانت تقاسيمه جميلة. لكنه ليس وجه عارضة أزياء. كم سنها يا ترى؟ ربما الخامسة والعشرون. إلى ما تنظر؟ ماذا تنتظر؟ … مر باص آخر ذو علامة زرقاء. دلف إلى داخله الرجل والمرأة والطفلان. وبعد أن تحرك الباص بدوننا نظرت الفتاة نحوي ولم تحاول هذه المرة أن تخنق الابتسامة التي بدت بين شفتيها اللتين تحركتا وكأنهما أرادتا أن تقولا شيئا. لكني لم أسمع حرفا… ثم سمعت، أو هكذا تهيأ لي. زعمت أن الحياة عذاب، وأنها لا تفكر في الرجال، ولا في الحب، ولا في المال. أصبت بشيء من الدهشة، وحاولت أن أرد عليها، لكني لم استطع الكلام، وسمعتها تضيف: سأكتفي بالقليل من الحياة، بالفتات، فتات الإنسانية. كان جسمها المكتنز كان يتحدث نيابة عنها.
قالت لديها بعض الصديقات، لكنها بحاجة إلى رجل. ليس ملكا ولا أميرا. فقط رجل. لكنها مترددة، وخائفة، خائفة أن … لهذا أحبطت محاولة كل من يقترب منها. تحاشت الرجال ونظراتهم. حتى الذين يفهمونها ويقدرونها. وظلت وحيدة تدمر نفسها بأحلام مجنونة تتحطم دائما أمام صخرة الواقع القاسي. قاس مثل الباص ذي العلامة الخضراء الذي وصل وصعدتُ فيه. بمفردي.

Comments are Closed